الفاشر: المدينة التي كست الكعبة فمزّقنا أستارها بالصمت

** للاستخدام الداخلي لا تصلح رئيسية ** قدمت قطعة من #كسوة_الكعبة هدية له من أحد الأثرياء السعوديين - صور رحلة حج طبيب وعالم هولندي فان دير هوخ
الكاتب: تشير روايات تاريخية إلى أن أهل الفاشر ساهموا في نسج كسوة الكعبة في بعض الحقب (رحلة حج طبيب وعالم هولندي فان دير هوخ)
  • من حصار الفاشر إلى سقوطها: كيف تُركت المدينة وحدها؟

في قلب دارفور، حيث يروي الرمل التاريخ، تقع الفاشر.. ليست مدينة عابرة في الجغرافيا، بل حاضرة في الذاكرة الإسلامية والأفريقية، عاصمة لسلطنة الفور، ومركز للحجيج القادمين من غربي أفريقيا إلى مكة.

تشير روايات تاريخية إلى أن أهلها ساهموا في نسج كسوة الكعبة في بعض الحقب، فصار لها من الشرف ما يعلو على الخرائط. واليوم، تُذبح هذه المدينة أمام أعيننا، ولا أحد يرفع طرفه! مدينة كست بيت الله، فمزقنا أستارها بالصمت، ولن يُغفر لنا ولو تمسكنا بأستار تلك الكسوة.

المفوض السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، وصف الوضع بأنه شديد الخطورة، محذرا من انتهاكات ذات دوافع عرقية، وداعيا إلى تدخل عاجل لحماية المدنيين

الحصار الطويل: 500 يوم من التجويع والترويع

منذ منتصف عام 2023، دخلت الفاشر في حصار خانق فرضته قوات الدعم السريع التي بدأت تطويق المدينة تدريجيا، وقطعت عنها الإمدادات الغذائية والطبية. استمر الحصار أكثر من 500 يوم، بحسب تقرير صحيفة التغيير السودانية، ما أدى إلى انهيار شبه كامل في الخدمات الأساسية.

وفقا لتقديرات اليونيسيف، فإن نحو نصف سكان المدينة المحاصرين من الأطفال، يعيشون تحت وطأة الجوع والخوف. جهاز رصد الجوع العالمي حذّر من مجاعة محتملة بحلول مايو/أيار 2025، وهو ما تحقق فعليا في الأشهر التالية، حيث بات نحو 300 ألف مدني في الفاشر مهددين بالموت جوعا.

الاجتياح والمجزرة: سقوط الفرقة السادسة ومذبحة المستشفى

في أكتوبر/تشرين الأول 2025، انسحب الجيش السوداني من مقر الفرقة السادسة مشاة، تاركا المدينة مكشوفة أمام قوات الدعم السريع التي أعلنت سيطرتها الكاملة على الفاشر. وفي الأيام التالية، وقعت مجازر مروّعة، أبرزها داخل مستشفى الولادة السعودي، حيث قُتل أكثر من 460 شخصا، بينهم نساء وأطفال، وفقا لتقارير نقابة أطباء السودان.

المفوض السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، وصف الوضع بأنه "شديد الخطورة"، محذرا من "انتهاكات ذات دوافع عرقية"، وداعيا إلى تدخل عاجل لحماية المدنيين.

في واشنطن، جرت لقاءات غير مباشرة بين ممثلين عن الجيش السوداني والدعم السريع، برعاية أميركية وسعودية، لكن نتائجها لم تتجاوز بيانات النوايا

النزوح الجماعي: 26 ألفا فرّوا خلال أيام

بحسب المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، فإن دخول قوات الدعم السريع أثار موجة نزوح واسعة، حيث فرّ نحو 26 ألف مدني من الفاشر خلال أيام قليلة. واجه النازحون نقاط تفتيش مسلحة، وابتزازا، واعتقالات تعسفية، ونهبا، بينما ظل عشرات الآلاف عالقين داخل المدينة دون ممرات آمنة.

إعلان

فرانس 24 وصفت سيطرة الدعم السريع على الفاشر بأنها "تحول كبير في مسار الحرب"، يمنح حميدتي قبضة قوية على دارفور ويهدد وحدة السودان.

الوضع الإنساني: انهيار كامل في الخدمات

وتحت هذا العنوان يندرج:

  • انقطاع الكهرباء والمياه بشكل شبه دائم.
  • غياب الأدوية والمستلزمات الطبية في المستشفيات.
  • تفشي الأمراض المعدية بسبب سوء التغذية وانعدام النظافة.
  • ولادات في العراء ودفن جماعي للضحايا في ساحات المستشفيات.
  • استخدام علف الحيوانات غذاء للمدنيين، بحسب تقارير ميدانية.

الفاشر اليوم ليست مدينة، بل جرحا مفتوحا في جسد الأمة! الناس لا يسألون عن السياسة، بل عن الحليب.. لا يتحدثون عن التوازنات، بل عن الخبز.. لا يطالبون بالعدالة، بل بالنجاة.

الوساطات الدولية: لقاءات بلا أثر

في واشنطن، جرت لقاءات غير مباشرة بين ممثلين عن الجيش السوداني والدعم السريع، برعاية أميركية وسعودية، لكن نتائجها لم تتجاوز بيانات النوايا. كما استضافت قطر جولات حوار سابقة، وطرحت مصر مبادرات للتهدئة، لكن لا شيء أوقف المجازر.

أصدر الاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد) بيانات عدة، لكنهما لم ينجحا في فرض وقف دائم لإطلاق النار. وفي المقابل، حذّرت تقارير أوروبية من أن سقوط الفاشر قد يمهّد لتقسيم السودان مجددا، في مشهد يذكّر بانفصال الجنوب عام 2011.

رغم الزخم الشعبي.. ظل الموقف الرسمي العربي والدولي مترددا، يراوح بين بيانات القلق ومناشدات التهدئة، دون إجراءات ملموسة توقف النزيف أو تحمي من تبقّى

الإعلام الشعبي والمسيرات: حين تحرك الناس وسكتت الحكومات

في مقابل الصمت الرسمي، تحركت قطاعات شعبية في السودان لتكسر جدار التجاهل الذي أحاط بالفاشر. في الخرطوم، خرجت مسيرات جماهيرية عقب صلاة الجمعة، نظّمتها لجان المقاومة ولجان الاستنفار الشعبي، رُفعت فيها لافتات كتب عليها: "الفاشر تنزف" و"أنقذوا دارفور".

وفي مدن دارفور الأخرى خرجت مظاهرات متباينة، بعضها تضامني وبعضها احتفالي بسيطرة الدعم السريع، ما يعكس الانقسام الحاد في المواقف داخل الإقليم.

على منصات التواصل، انتشر وسم #الفاشر_تستغيث، وبلغت مشاهداته ملايين التفاعلات خلال أيام، بحسب رصد منصات تحليل الاتجاهات الرقمية. آلاف النشطاء والصحفيين والأطباء السودانيين في الشتات أطلقوا حملات توثيق وجمع تبرعات، ونشروا صورا وشهادات من داخل المدينة، متحدّين الحظر الإعلامي المفروض عليها.

في مصر، أطلق طلاب الجامعات حملة "دارفور في القلب"، وفي تركيا نظّمت جمعيات خيرية قوافل دعم طبي وغذائي رغم تعقيدات الوصول.

أما في أوروبا، فقد طالبت منظمات حقوقية مثل هيومن رايتس ووتش وأطباء بلا حدود بفتح تحقيق دولي عاجل، وفرض عقوبات على المسؤولين عن المجازر.

لكن رغم هذا الزخم الشعبي، ظل الموقف الرسمي العربي والدولي مترددا، يراوح بين بيانات القلق ومناشدات التهدئة، دون إجراءات ملموسة توقف النزيف أو تحمي من تبقّى. وهنا، لا بد من مساءلة جماعية: ما الذي يجب على الأمتين العربية والإسلامية فعله؟

ليس المطلوب بيانات إضافية، بل تحركا ملموسا يؤدي إلى فتح ممرات إنسانية عبر دول الجوار، وإرسال فرق طبية عاجلة، ودعم المنظمات المستقلة للوصول إلى المدينة، وتفعيل أدوات الضغط الدبلوماسي في المحافل الدولية.

على الدول الإسلامية أن تتعامل مع الفاشر كما تعاملت مع القضايا المحورية للأمة، لا باعتبارها مدينة منكوبة فحسب، بل رمزا إنسانيا له امتداد في وجدان الأمة.

إعلان

وعلى المستوى العالمي، لا يكفي التنديد، بل يجب تفعيل آليات المحاسبة الدولية، وتجميد أصول المسؤولين عن المجازر، وفرض حظر على توريد الأسلحة، وتشكيل لجنة تحقيق مستقلة تحت مظلة الأمم المتحدة.

هذه ليست مقالة، بل صرخة.. صرخة من قلب مكلوم وضمير يئن تحت ركام الأسئلة. كل عربي وكل مسلم ينظر إلى أولاده ويسأل نفسه: متى يأتي دورنا؟ هل سنكون غزة أخرى؟

الفاشر ليست اختبارا للسودان وحده، بل هو اختبار للضمير العالمي

هل ما زال قادرا على التمييز بين الجريمة والصمت؟

هذه ليست مقالة، بل صرخة.. صرخة من قلب مكلوم وضمير يئن تحت ركام الأسئلة. كل عربي وكل مسلم ينظر إلى أولاده ويسأل نفسه: متى يأتي دورنا؟ هل سنكون غزة أخرى؟ هل سنكون فاشر أخرى؟ هل أصبح الدم العربي أرخص من أن يُفاوَض عليه؟ أأصبح الصمت فضيلة أم عارا لا يُغتفر؟

وأختم بقول تميم البرغوثي:

 أرى الموت لا يرضى سوانا فريسة .. كأنّا، لعمري، أهله وقبائله

هو بيت لا يُقال في رثاء، بل في مساءلة.. بيت يُكتب على جدران الفاشر، وقبور أطفال غزة، وعلى جبين كل من رأى ولم يتكلم.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان