داهمت مليشيا "الدعم السريع" مدينة الفاشر السودانية من ثلاثة محاور، بعد حصار مطبق دام أكثر من ثمانية عشر شهرا، ذاق خلالها المحاصرون من المدنيين في تلك المدينة ويلات الجوع وفقدان كل مقومات الحياة.
وخلال تمشيطها أحياء المدينة المستباحة، ارتكبت مجموعات من المتعطشين للدماء، التابعة لـ"الدعم السريع"، مجازر وفظائع على المباشر بحق أولئك الأبرياء، في استسهال عجيب لإزهاق أرواح البشر دون أن يطرف لهم جفن، أو تهتز لهم عاطفة، أو يردعهم خوف من عقاب.
وقد عذبوا بعض ضحاياهم في أوضاع شديدة القسوة، غير آبهين بتوسلات أولئك المساكين للإبقاء على حياتهم، فتوسلاتهم لاقت قلوبا من حديد، فكانت كصرخة في وادٍ أو نفخة في رماد.
إن تدخل القوى الأجنبية في هذا الصراع واضح كوضوح الشمس في رابعة النهار، بعضه جلي وبعضه الآخر مستتر لا يحب الظهور. ويظهر هذا التدخل فيما وفرته لتلك المليشيات في هجومها الأخير بسلاح نوعي
دلالات سقوط مدينة الفاشر
بسقوط مدينة الفاشر السودانية بيد مليشيات "الدعم السريع"، يكون إقليم دارفور برمته قد وقع تحت سيطرة هذه الأخيرة. وإقليم دارفور بولاياته الخمس يمثل غرب السودان، والمعنى أن "الدعم السريع" قد استفادت من خمسة مطارات تستغل حتما في الإمداد العسكري وجلب مزيد من المرتزقة.
ثم تأتي الموارد الثمينة، كالذهب الموجود بكثرة في هذا الإقليم، وربما كان هذا من الأسباب الخفية لهذا الصراع الدامي، مما أسال لعاب كثير من القوى الخارجية.
وتقدر بعض المصادر أن بالإمكان استخراج ما قيمته مئة مليار دولار سنويا من الذهب الخام، ناهيك عن وجود معادن أخرى كاليورانيوم، ستستغل حتما لدعم المجهود الحربي بعد بيعها بأبخس الأثمان لشركات صنع السلاح وتدمير الأوطان.
علاوة على الأراضي الخصبة التي يمكن أن تكون سلة غذاء حقيقية لأفريقيا كلها، وربما للعالم أجمع، فضلا عن المراعي الواسعة التي يمكنها أن تستوعب الملايين من رؤوس الماشية والبقر والإبل كمصدر كبير للثروة الحيوانية.
إن تدخل القوى الأجنبية في هذا الصراع واضح كوضوح الشمس في رابعة النهار، بعضه جلي وبعضه الآخر مستتر لا يحب الظهور. ويظهر هذا التدخل فيما وفرته لتلك المليشيات في هجومها الأخير من سلاح متقدم ونوعي، وطائرات مسيرة بالغة الدقة، ومركبات بلا عدد، وذخيرة لا تنضب، باغتت الجيش السوداني وهو يدافع عن آخر معقل له في دارفور، فأسقط في يده وانسحب، تاركا مدينة الفاشر وحيدة تواجه مصيرها البائس أمام هجوم جماعات من الموتورين من شذاذ الآفاق المتعطشين لسفك الدماء.. وكان ما كان من فظائع رآها العالم أجمع بأم عينيه.
لا شك أن الذين صوروا عمليات القتل والتعذيب للمدنيين ونشروها عبر وسائل التواصل، أرادوا من ذلك بث الرعب في نفوس بعض القبائل لإجبارها على الفرار بجلدها، تاركة وراءها مساحات شاسعة من الأراضي
السودان الجريح ومخاطر التقسيم
بعدما قامت الدول الكبرى في زمن مضى بالتقسيم الأول للسودان وفصل جنوبه عن شماله، ها هي تريد اليوم تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ، لتعيد الكرّة مرة أخرى بفصل غرب السودان (إقليم دارفور) عن الوطن الأم؛ وذلك أولا لإضعافه وتقليص فرص نهضته مستقبلا، وثانيا لنهب خيراته التي ترى نفسها أولى بها من أهله.. تماما كما يفعل اللئام بمأدبة الأيتام.
إن إقليم دارفور يقع على تماس مع شرقي ليبيا، ومع تشاد وأفريقيا الوسطى، وكلها دول تدعم التصدع السوداني وتشجع انفصال دارفور عن الوطن الأم. وبذلك ستجد الطريق سالكا أمامها لتقوية "الدعم السريع" بكل ما تحتاجه من إمداد عسكري ولوجيستي ومرتزقة، ما دام الإقليم قادرا على تغطية النفقات بما يحتويه من أرزاق لا تنضب، بعدما أزيحت سلطة الدولة المركزية بانكسارها المشبوه أمام مرتزقة الجنجويد.
هذه الدولة المركزية يتلكأ داعموها في الأوقات الصعبة والحرجة، ويقدمون لها الدعم بشكل مقطر وعلى التراخي، على عكس داعمي "الدعم السريع"، الذين أجمعوا أمرهم على فرض خطتهم، وتقديم دعم متواصل وسخي وفوري لها، ليكون النجاح حليفها.
مقاصد الإجرام العلني
لا شك أن الذين صوروا عمليات القتل والتعذيب للمدنيين ونشروها عبر وسائل التواصل، أرادوا من ذلك بث الرعب في نفوس بعض القبائل لإجبارها على الفرار بجلدها، تاركة وراءها مساحات شاسعة من الأراضي؛ فيستولي عليها من خطط لهذا الأمر ونفذه كغنيمة باردة. وهي أراضٍ لا تقدر بثمن، من حيث جودتها وصلاحيتها لكل شيء، وقربها من مصادر الثروة.
إن سوء الإدارة والتوزيع غير العادل للثروة الوطنية بين طبقات الشعب وأقاليمه مؤذن بخراب الديار، وتهيئة البلد للاستعمار، وتشجيع النزعات الانفصالية لدى كثير من أبناء القبائل والأقاليم المهمشة التي حرمت عمدا من حقها في الثروة الوطنية
سؤال محير؟!
لقد تبين للعالم أجمع أن السودان من أغنى بلاد الله، بما حباه الله من خصوبة في أراضيه، ومرور النيل في وسطه، مما يمكنه من إنبات كل المحاصيل وتوفير الغذاء للآكلين داخل السودان وخارجه، فضلا عن معادنه النفيسة ونفطه وغير ذلك.
والسؤال المحير هو: لماذا لم يستغل النظام الحاكم في الخرطوم، منذ عقود، كل تلك الإمكانات الهائلة للنهوض بالبلاد وجعلها في مصاف الدول المتقدمة، ليعيش شعبها رغد العيش ببركات الله التي نشرها فوق أرضه وأودعها في باطنها؟
إن سوء الإدارة والتوزيع غير العادل للثروة الوطنية بين طبقات الشعب وأقاليمه مؤذن بخراب الديار، وتهيئة البلد للاستعمار، وتشجيع النزعات الانفصالية لدى كثير من أبناء القبائل والأقاليم المهمشة التي حرمت عمدا من حقها في الثروة الوطنية، بينما ترى بأم أعينها استئثار رجال السلطة المركزية وأبنائهم وعشيرتهم بخيرات الوطن، وهم يرفلون في نعيمه، في حين يعيش الباقون في ضنك وبؤس. وقد قال ابن خلدون (رحمه الله): "إن الظلم مؤذن بخراب العمران والديار".
أثبتت التجارب في المنطقة أن حكم العسكر شر كله، وأنهم أبعد الناس عن إدارة شؤون البلاد وسياسة الشعوب بما يحقق مصالحها، وأن نتائج حكمهم كانت كارثية على الأمة بأسرها
إنقاذ ما يمكن إنقاذه
لا تزال الفرصة قائمة أمام ساسة الخرطوم لجمع شمل أبناء الوطن الواحد، والعمل على استعادة السيطرة على إقليم دارفور، وتنظيم انتخابات ووضع دستور جديد، يضمن لكل السودانيين -على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم وأقاليمهم- حقهم في العيش الكريم داخل وطنهم، والاستفادة من خيرات بلدهم بعدالة وإنصاف، وحقهم في دولة مدنية تعمل على بناء الوطن من جديد.
ويبقى الجيش ضامنا لوحدة البلد شعبا وأرضا، وينأى بنفسه عن تسيير شؤون الدولة؛ فقد أثبتت التجارب في المنطقة أن حكم العسكر شر كله، وأنهم أبعد الناس عن إدارة شؤون البلاد وسياسة الشعوب بما يحقق مصالحها، وأن نتائج حكمهم كانت كارثية على الأمة بأسرها، وجلبت لها المتاعب والأسى والفقر والحرمان.
نتمنى للسودان الشقيق السلامة والنهضة، ووحدة الشعب ووحدة أراضيه، وأن يسلم من طيش هواة التجزئة والتقسيم، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وإنما يتمثل دورهم في كونهم أدوات لتمزيق هذه الأمة شرَ ممزق، وتركها أثرا بعد عين.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

