الفاشر تحت النار.. مأساة السودان المنسية!

اعدامات ميدانية في الفاشر
فظائع ارتكبتها مليشيا الدعم السريع ضد أبناء مدينة الفاشر (مواقع التواصل)

هل كان حلما قصيرا ذلك الوطن؟

أم كان طفلا صغيرا ذلك الزمن؟

هل كان ما كان وهما وطاف في عجل؟

قُل لي: ماذا ألم بنا حتى تسرب من أعمارنا الوطن؟

تبدو هذه الأبيات كأنها كُتبت على جدار من الدخان، فوق أطلال الفاشر، المدينة التي كانت حلما من نخيل وسلام، قبل أن تغدو مرثية في دفتر الخراب. واليوم، تختنق الحكايات فيها تحت الركام، وتتشظى أرواح الناس بين رصاصة طائشة، ونداء يبحث عن العالم فلا يسمع سوى صدى الصمت.

العالم يتحدث بلغة الإحصاءات، بينما نحن نحترق بلغة الدموع! في كل رقم معلن عن "الضحايا" هناك حياة كانت تحلم، وضحكة كانت تملأ بيتا، وذاكرة تُمحى ببطء

الفاشر.. ذاكرة النار والندى

الفاشر ليست مدينة فقط، بل ذاكرة جماعية للسودانيين؛ ففي أزقتها اختلطت رائحة البن بالبارود، وصوت الأذان بأنين الجرحى. كانت الفاشر نافذة الغرب على الحلم، حيث يتعايش الفقراء والمبدعون والرُحل والتجار في نسيج إنساني نادر، يشبه السودان حين كان متماسكا، حيا، دافئا.

لكن اليوم، تبدو المدينة ككائن مرهق من البكاء، تجر أنفاسها الأخيرة وسط صمت دولي يثير الغضب.. لم يعد السؤال: من يطلق النار؟ بل: لماذا لا يسمع أحد صرخة الفاشر؟ لقد تحولت المدينة إلى رمز للخذلان العالمي، وإلى مرآة تعكس فشل الإنسانية في حفظ معاني الكرامة.

العالم الذي صمت.. والضمير الذي هرب

من على شاشات الأخبار، تمر مشاهد الفاشر كأنها لقطات من فيلم قديم، يتحدث المراسلون عن "اشتباكات" و"نزوح"، بينما يختبئ في الكلمات رعب لا يوصف.. طفل يبحث عن أمه بين الأنقاض، وشيخ يدفن أبناءه بيديه، وامرأة تحمل حقيبة صغيرة فيها مفاتيح بيت لن تعود إليه أبدا.

العالم يتحدث بلغة الإحصاءات، بينما نحن نحترق بلغة الدموع! في كل رقم معلن عن "الضحايا" هناك حياة كانت تحلم، وضحكة كانت تملأ بيتا، وذاكرة تُمحى ببطء. كم هو قاسٍ أن يتحول الإنسان إلى مجرد سطر في تقرير أممي بارد، بينما الحقيقة تنزف بين حروف لا تحمل دفء القلب!

ربما لا نملك السلاح، لكننا نملك الكلمة، والكلمة في زمن الخراب ليست ترفا، بل فعل مقاومة.. أن تكتب عن الفاشر يعني أن ترفض موت المعنى، أن تقول للعالم: نحن هنا، ما زلنا نحلم رغم الرماد

الفاشر.. رمز الإنسانية المنسية

في عمق المأساة، تبقى الفاشر رمزا للإنسانية المنسية. هي ليست مجرد بقعة على الخريطة، بل اختبارا أخلاقيا للعالم: هل ما زال في البشر متسع للتعاطف؟ هل ما زال في الضمير مساحة للغضب النبيل؟

إعلان

إن ما يجري هناك ليس حربا فقط، بل انهيارا للمعنى ذاته؛ فحين يصبح الصمت الدولي أقوى من صراخ الضحايا، فإننا نعيش زمنا فقد بوصلته الأخلاقية. ربما لا تحتاج الفاشر إلى مساعدات بقدر ما تحتاج إلى أن يُسمع صوتها بصدق وعدل، لأن العدالة تبدأ بالاعتراف، والاعتراف بداية الشفاء.

الكتابة كشهادة حياة

ربما لا نملك السلاح، لكننا نملك الكلمة، والكلمة في زمن الخراب ليست ترفا، بل فعل مقاومة.. أن تكتب عن الفاشر يعني أن ترفض موت المعنى، أن تقول للعالم: نحن هنا، ما زلنا نحلم رغم الرماد.

الفاشر لا تحتاج فقط إلى من يبكيها، بل إلى من يرويها كما هي: بكرامتها المكسورة، بأمومتها الجريحة، وبأحلام أطفالها التي لم تكتمل. هي ليست مأساة سودانية فقط، بل مأساة العالم الذي سمح للنار أن تلتهم إنسانيته.

الفاشر ليست مجرد مدينة تحترق، بل مرآة نرى فيها وجوهنا الحقيقية: وجوهنا حين نغض الطرف عن المأساة، وحين نختار الصمت بدلا من الفعل، وحين نبرر لأنفسنا أن البعيد لا يعنينا

تأمل الختام: من بين الرماد تولد البلاد

قد يبدو السودان اليوم كجسد مثقوب بالرصاص، لكنه لم يمت بعد؛ ففي كل أم تحتضن طفلها رغم الجوع، وفي كل شاب يحلم بوطن يسع الجميع، هناك بذرة نهضة صامتة تنتظر الضوء.

الفاشر اليوم تئن، لكن أنينها هو أيضا نداء للحياة.. سيأتي يوم -ربما لا نعرف متى هو- تنهض فيه روحها من رمادها كما تنهض طيور الفجر من ليلها الطويل، والوطن الذي ظنناه حلما قصيرا سيعود وطنا حقيقيا من ضوء وكرامة وإنسانية.

الفاشر ليست مجرد مدينة تحترق، بل مرآة نرى فيها وجوهنا الحقيقية: وجوهنا حين نغض الطرف عن المأساة، وحين نختار الصمت بدلا من الفعل، وحين نبرر لأنفسنا أن البعيد لا يعنينا.

لكن الحقيقة أن الفاشر تسكن فينا جميعا.. في خوفنا، وفي وجعنا، وفي ما تبقى من ضميرنا. فليكن هذا المقال لا مجرد رثاء، بل صرخة ضمير تُعيد إلينا إنسانيتنا المفقودة، وتوقظ فينا الحلم القديم: أن يكون لنا وطن.. لا يُنسى.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان