في إحدى الليالي الشتوية، كان "بنجامين فرانكلين" يتأمل السماء القاتمة فوق فيلادلفيا، بينما تضرب صواعق البرق أطراف المدينة، لم يكن يعلم أن تلك الشرارة، التي أرعبت البشر لقرون، سيجدها ذات يوم الوسيلة التي ينبض بها قلبه، ويتحرك بها إصبعه، ويفكر بها دماغه.
لطالما نظر الإنسان للكهرباء (البرق، الصدمات، المصابيح، المحركات) كقوة خارجية مهيبة، لكن الحقيقة أن هذه القوة تسكن داخلنا منذ الأزل.
كل فكرة، كل نبضة قلب، كل حركة إصبع، كل شيء من هذا هو في الواقع تيار كهربائي صغير جدا، غاية في الدقة والانضباط، يمر في أعماق الجسد دون أن نلحظ وجوده! وما سنرويه هنا ليس فقط قصة الكهرباء، بل قصة الإنسان نفسه.
هنا، سنغوص في عالم مذهل، يدعى "عالم الكهرباء البيولوجية"، معه بدأ الإنسان يكتشف أن جسده أشبه بمحطة طاقة حيوية مذهلة.
كلما خطرت في بالك فكرة، أو تذكرت وجها عزيزا، أو راودك حلم غريب، أو انتابتك رعشة خوف، في جزء من الثانية، تنطلق تيارات كهربائية صغيرة من خلايا دماغك، تتحرك بسرعة خاطفة، لتصل إلى أحد أعضاء جسدك
الجسد كمولد كهربائي: من أين تأتي الكهرباء التي بداخلنا؟
عندما نسمع كلمة "كهرباء"، يتبادر إلى أذهاننا المصابيح، والأسلاك، والأجهزة المنزلية، أو ربما الصواعق، لكن القصة الحقيقية أعقد من ذلك بكثير؛ فكل كائن حي- من أبسط بكتيريا إلى أعقد كائن (الإنسان)- يُنتج نوعا من الكهرباء الحيوية (Bioelectricity).
هذه الكهرباء عبارة عن شحنة كهربائية صغيرة، ناتجة عن فرق تركيز الأيونات (مثل الصوديوم والبوتاسيوم والكالسيوم) بين داخل الخلية وخارجها.
هذا الفرق يسمى علميا بـ"جهد الغشاء" (Membrane Potential)، قيمته تقارب 70 مللي فولت في الخلايا العصبية. صحيح أنه لا يبدو رقما ضخما، لكن تخيل أن في دماغك أكثر من 86 مليار خلية عصبية، كل واحدة منها تولد وتستقبل إشارات كهربائية باستمرار.. هذه الإشارات الكهروكيميائية تسري بين الخلايا لتنسق الحركة، والتفكير، والإحساس، بل وحتى المشاعر.
إذن، الجسد ليس فقط مكانا تسكن فيه الكهرباء، بل هو من يصنعها، ويستخدمها، ويعتمد عليها في كل ثانية من حياته.
الأعصاب: أسلاك الجسد الناقلة للكهرباء
كلما خطرت في بالك فكرة، أو تذكرت وجها عزيزا، أو راودك حلم غريب، أو انتابتك رعشة خوف، يحدث داخل جسدك حدث هائل دون أن تشعر.
في جزء من الثانية، تنطلق تيارات كهربائية صغيرة من خلايا دماغك، تتحرك بسرعة خاطفة، لتصل إلى أحد أعضاء جسدك، هذه الإشارات تسير عبر شبكة عصبية مذهلة، تقدَر أطوالها في جسم الإنسان في بعض الدراسات بأكثر من 100 ألف كيلومتر، أي ما يعادل مسافة الدوران حول الكرة الأرضية مرتين ونصفا تقريبا!
تماما كما تنقل الأسلاك التيار الكهربائي في منزلك لتشعل مصباحا أو تشغل جهازا، تقوم الأعصاب بدور "أسلاك الجسم"، حيث تنقل الإشارات العصبية الكهربائية بين الدماغ والعضلات، وبين الأعضاء الداخلية والمراكز الحسية.
لكن الأعصاب أكثر كفاءة وأسرع من أي كابل كهربائي منزلي، فالإشارات العصبية يمكن أن تسير بسرعة تصل إلى 120 مترا في الثانية، أي حوالي 432 كيلومترا بالساعة.
هذه الآلية العصبية الدقيقة تعرف باسم "جهد الفعل" (Action Potential)، وهي التي تتيح للخلايا العصبية أن ترسل نبضات كهربائية عبر محاورها الطويلة.
تخيل الأمر: كأن نبضة من الضوء تقفز بسرعة البرق على طول سلك رفيع داخل جسدك، وعندما تصل هذه النبضة إلى نهاية العصب لا تتوقف هناك، بل تطلق مواد كيميائية تدعى "الناقلات العصبية" (Neurotransmitters)، وهي التي تكمل المهمة إلى الخلية التالية، وتعيد الكرّة في سلسلة من الأحداث المتلاحقة التي لا تتوقف.
بهذه الطريقة، يتحرك كل إصبع، ويُغلق كل جفن، وتتشكل كل كلمة في فمك، وبهذه النبضات الكهربائية الخفية ندرك الألم، ونشعر بالحرارة، ونتفاعل مع العالم من حولنا.
كل هذا النشاط العصبي يحتاج إلى طاقة، ودماغك لا يتوقف عن العمل أبدا حتى وأنت نائم، يواصل معالجة الأحلام وتنظيم وظائف الجسم الحيوية. ولتحقيق ذلك، ينتج دماغك حوالي 20 "واط" من الكهرباء في كل لحظة، وهي نفس كمية الطاقة التي تشغل لمبة صغيرة.. قد تبدو كمية ضئيلة، لكنها كافية لتنسيق عمل 86 مليار خلية عصبية داخل الدماغ.
يستعين الأطباء بأجهزة دقيقة مثل"ECG" لمراقبة الإشارات الكهربائية القلبية، أو أجهزة "Pacemaker" تُزرع داخل الجسم لترسل نبضات كهربائية منظمة عند الحاجة
القلب: كهرباء تنبض بالحياة
قلبك لا ينبض عشوائيا، خلف كل دقة تسمعها أو تشعر بها في صدرك، هناك منظومة كهربائية مذهلة تعمل بصمت ودقة، في أعلى الأذين الأيمن من القلب، توجد نقطة صغيرة تدعى "العقدة الجيبية الأذينية" (SA Node)، وهي أشبه بمولد كهربائي طبيعي. هذه العقدة تعرف أيضا باسم "منظم ضربات القلب الطبيعي"؛ لأنها تطلق شحنات كهربائية منتظمة تحدد إيقاع نبضك.
تبدأ كل دقة قلب بهذه النبضة الكهربائية، التي تسري أولا في الأذينين، ثم تنتقل إلى البطينين، فتدفع القلب إلى الانقباض بشكل منسق يدفع الدم بقوة إلى كل أنحاء الجسم.
هذه التيارات الخفية هي ما يرسم الخطوط التي تراها على أجهزة تخطيط القلب (ECG)، الخطوط التي تراها هناك ليست مجرد رسوم بل لغة كهرباء القلب، تظهر من خلالها كل نبضة، وكل خلل محتمل.
وما لم تكن تلك النبضات دقيقة ومنتظمة، فإن الإيقاع القلبي يختل تسارعا أو تباطؤا، وقد يحدث ما يعرف بـ"اضطراب النبض" (Arrhythmia)، أو حتى "الرجفان البطيني" (Ventricular Fibrillation)، وهو تذبذب فوضوي للبطينين قد يكون قاتلا إن لم يعالَج فورا.
لهذا، يستعين الأطباء بأجهزة دقيقة مثل"ECG" لمراقبة الإشارات الكهربائية القلبية، أو أجهزة "Pacemaker" تُزرع داخل الجسم لترسل نبضات كهربائية منظمة عند الحاجة، كما أن بعض الأدوية مثل "ديجوكسين" (Digoxin) تعمل على تعديل استجابة القلب لهذه النبضات، لتعيده إلى وتيرته الطبيعية.
وإن كنت تظن أن العلم قد اكتشف هذه الكهرباء حديثا، فاعلم أن أول تسجيل رسمي لنشاط كهرباء القلب تم في عام 1887، على يد العالم البريطاني "أوغسطس والر" (Augustus Waller)، الذي سجله باستخدام جهاز بدائي وأقطاب وضعت مباشرة على صدر المريض، وكلبه بجانبه!
الكهرباء التي تحرك عضلاتك يمكن أن تكون مؤشرا على صحتك، إذ تشخص أمراضا مثل "التصلب المتعدد (multiple sclerosis) أو "اعتلال الأعصاب الناتج عن السكري"
العضلات: المحركات التي تشغَل بالكهرباء
ذكرنا آنفا أن الأعصاب ليست سوى مرسال بين الدماغ وأجزاء جسم الإنسان، أما المنفذ الحقيقي فهو العضلات.. هذه الكتل النسيجية، التي قد تبدو ساكنة، تخفي في داخلها نظاما متطورا من الاستجابة الكهروكيميائية.
حين تصل الإشارة العصبية إلى العضلة، تطلق الأعصاب مواد كيميائية مثل الـ"أستيل كولين" (Acetylcholine) في نقطة الاتصال، وهي منطقة تسمى "الوصل العصبي العضلي" (Neuromuscular Junction).
هنا، تلتقي الكهرباء بالكيمياء؛ إذ تُحدث هذه المواد تيارا كهربائيا داخل ألياف العضلة، وتفتح بوابات الكالسيوم، مما يؤدي إلى تفاعل مذهل بين خيوط بروتينية تدعى "الأكتين والميوسين".
تبدأ هذه الخيوط في الانزلاق بعضها فوق بعض، مسببة انقباض العضلة، وكل هذا يحدث في أجزاء من الثانية.
هذه الآلية لا تعمل فقط لتحريك الأطراف، بل تشمل أيضا العضلات اللاإرادية كعضلات الأمعاء والقلب والحجاب الحاجز، التي تعمل بتنظيم داخلي مستقل عن إرادتك، لكنها تخضع لنفس المبادئ الكهربائية.
ما يثير الإعجاب أن هذه الإشارات الدقيقة يمكن تسجيلها وقياسها عبر جهاز "تخطيط كهربائية العضلات" (EMG)، تماما كما ترصد موجات الدماغ أو القلب. من خلال هذا الجهاز، يمكن رؤية كيفية تفاعل العضلات مع الأعصاب، وكيف تصدر الشحنات عند الانقباض أو الاسترخاء.
ليس هذا مجرد فضول علمي، فالكهرباء التي تحرك عضلاتك يمكن أن تكون مؤشرا على صحتك، إذ تشخص أمراضا مثل "التصلب المتعدد (multiple sclerosis) أو "اعتلال الأعصاب الناتج عن السكري"، من خلال الخلل في هذه الإشارات؛ فعندما تضطرب الكهرباء تضطرب الحركة، وتنهار الوظائف الأساسية.
وكلما زادت الحركة تعقيدا، كالمشي أو حمل شيء ثقيل، زادت الشحنات العصبية المتبادلة، أما حين تتباطأ أو تضطرب، فقد تكون هناك مشكلة في الاتصال الكهربائي الذي يبقيك متماسكا وحيويا.
بعض من يتعرضون للصعق الكهربائي ينجون، لكنهم لا يخرجون كما كانوا، فقد يصابون بحروق كبيرة، أو تلف دائم في الجهاز العصبي، أو فقدان بعض الوظائف الحسية أو الحركية
الصدمات الكهربائية: عندما تنقلب الكهرباء ضد الجسد
الكهرباء في أجسامنا منظمة بدقة مذهلة، تعمل وكأنها أوركسترا بيولوجية لا تخطئ توقيتها! لكن، ماذا يحدث حين تقتحم أجسامنا شحنة كهربائية خارجية أقوى من أن تتحملها هذه المنظومة الحساسة؟
عند التعرض لتيار كهربائي خارجي قوي- سواء من صاعقة سماوية أو من كابل كهربائي مكشوف- تتغير القواعد كليا، فلا تعود الكهرباء صديقة، بل تتحول إلى قوة هائجة تندفع داخل الجسم، لا تميز بين الأعصاب والعضلات والقلب، تدخل الجسد كوحش كهربائي جامح، يربك الشبكة العصبية ويفجر نظام القلب.
واحدة من أخطر النتائج هي "الرجفان البطيني" (Ventricular Fibrillation)، وهي حالة يصاب فيها القلب بنبضات كهربائية غير منتظمة، تمنعه من الانقباض بشكل فعال، فيتوقف عن ضخ الدم، ما يؤدي إلى فقدان الوعي خلال ثوانٍ، والموت خلال دقائق إن لم يعالج.
كذلك، تسبب الصدمة تقلصات عضلية عنيفة، لدرجة تجعل المصاب عاجزا عن الإفلات من مصدر التيار، مما يزيد من مدة التعرض والخطر.. هذه التقلصات قد تكون قوية بدرجة تكفي لتحطم العظام أو تمزق العضلات.
ولأن التيار الكهربائي يمر بسهولة عبر سوائل الجسم، فإنه يولد حرارة داخلية مدمرة، تؤدي إلى حروق عميقة داخلية قد لا تظهر فورا على الجلد، لكنها تدمر الأنسجة الحيوية في الأعماق.
أما الجهاز العصبي- بما فيه الدماغ- فيكون عرضة لاضطراب كارثي؛ فمرور التيار قد يُحدث تلفا دائما في الأعصاب، فيُفقد المصاب القدرة على الحركة أو الإحساس، أو حتى السيطرة على وظائف الجسم الأساسية.
المفارقة الصادمة أن التيار المتردد (AC)- وهو المستخدم في المنازل- يعتبر أكثر خطورة على القلب من التيار المستمر (DC)، لأنه يسبب تذبذبا في الخلايا القلبية قد يوقفها عن العمل فجأة. ولهذا السبب، تستخدم أجهزة مثل "مزيل الرجفان" (Defibrillator) في الطوارئ، لإعادة تشغيل القلب عبر صدمات كهربائية محسوبة بدقة.
بعض من يتعرضون للصعق الكهربائي ينجون، لكنهم لا يخرجون كما كانوا، فقد يصابون بحروق كبيرة، أو تلف دائم في الجهاز العصبي، أو فقدان بعض الوظائف الحسية أو الحركية.. قد يخرجون بأجساد تنبض بالحياة، لكن بأعصاب متعبة أو قلوب لم تعد تنبض كما كانت من قبل، فالكهرباء في نهاية المطاف طاقة لا يُؤمن جانبها.
تستخدم أجهزة الصدمات القلبية لإعادة تشغيل القلب عبر شحنات كهربائية محسوبة، أما "التحفيز الكهربائي للأعصاب" (TENS)، فيستخدم لتخفيف الألم المزمن عبر تشتيت الإشارات المؤلمة التي تصل إلى الدماغ
الكهرباء في الطب: كيف صارت أداة علاج؟
منذ أن فهم الإنسان لغة الكهرباء داخل جسده، لم تعد هذه الطاقة سر الحياة فقط، بل أصبحت أداة علاج مذهلة! أحد أقدم استخداماتها كان "جهاز تنظيم ضربات القلب"، ذلك الجهاز الصغير الذي يُزرع داخل الصدر، ويعمل كقائد كهربائي ينقذ القلب حين يبطئ أو يختل إيقاعه.
ثم امتد استخدام الكهرباء إلى الدماغ، لعلاج أمراض مثل "الاكتئاب المقاوم للأدوية"، من خلال "التحفيز المغناطيسي عبر الجمجمة" (TMS)، حيث ترسَل نبضات تنشط مناطق محددة من الدماغ وتحسن الحالة المزاجية، بل وحتى مرضى "باركنسون" بات بإمكانهم اليوم استعادة شيء من حركتهم عبر زراعة أقطاب كهربائية في الدماغ، تعدل النشاط العصبي غير الطبيعي.
في حالات الطوارئ، تستخدم أجهزة الصدمات القلبية لإعادة تشغيل القلب عبر شحنات كهربائية محسوبة، أما "التحفيز الكهربائي للأعصاب" (TENS)، فيستخدم لتخفيف الألم المزمن عبر تشتيت الإشارات المؤلمة التي تصل إلى الدماغ.
وفي مجال إعادة التأهيل، هناك ما يعرف بـ"التحفيز الكهربائي الوظيفي" (FES)، حيث ترسَل إشارات كهربائية إلى عضلات الشلل لتحفيز الحركة، مانحة الأمل لمرضى إصابات الحبل الشوكي.
ومع تطور التكنولوجيا، تتسارع مشاريع مذهلة مثل:
- الأطراف العصبية الصناعية، التي تتحرك بإشارات الأعصاب.
- رقائق الدماغ مثل مشروع "Neuralink"، الذي يطمح لربط الدماغ بالحاسوب.
- الجلد الإلكتروني (e-skin)، القادر على الإحساس بالحرارة واللمس. أجهزة تنظيم القلب المتطورة، التي تعمل بلا بطاريات.
كل هذه الابتكارات تؤكد أن الكهرباء لم تعد مجرد تيار يمر، بل أصبحت لغة نفهم بها أجسادنا، ونصلح بها ما تعطل منها.
ختاما
لو نظرنا من بعيد، لأدركنا أن جسم الإنسان يعمل مثل نظام كهربائي شامل:
الدماغ مركز التحكم. الأعصاب كابلات النقل. القلب جهاز تنظيم وتوزيع. العضلات أجهزة تنفيذ. المستقبل يحمل أجهزة مدمجة تضاف إلى هذه الشبكة.
كل شعور، كل فكرة، كل نبضة، كل شيء من ذلك هو في الحقيقة "تيار كهربائي صغير".. وعندما ندرك هذه الحقيقة، تتغير نظرتنا للحياة نفسها، لأننا حرفيا "كائنات كهربائية".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

