من ضحايا النازية إلى جلادي الإنسانية

رئيس حزب "عظمة يهودية" إيتمار بن غفير، عراب مشروع الاستيطان وفرض السيادة الإسرائيلية على كل فلسطين التاريخية.
رئيس حزب "عظمة يهودية" إيتمار بن غفير، عراب مشروع الاستيطان وفرض السيادة الإسرائيلية على كل فلسطين التاريخية (الجزيرة)

لم تكن ولادة "إسرائيل" حدثا عفويا، ولا نتيجة طبيعية لمعاناة اليهود في أوروبا كما تروج الدعاية الصهيونية، بل كانت ثمرة مشروع استعماري منظم ولد في أروقة القوى الغربية، هدفه إنشاء كيان وظيفي في قلب المشرق العربي، يخدم مصالح الغرب الإستراتيجية، ويفصل بين جناحيه الآسيوي والأفريقي.

منذ أواخر القرن الـ19، شرعت الحركة الصهيونية- التي تأسست رسميا عام 1897 بقيادة ثيودور هرتزل- في تنظيم الهجرة الجماعية لليهود الأوروبيين إلى فلسطين، بدعم مالي وسياسي من بريطانيا وفرنسا، ثم من الولايات المتحدة لاحقا.

لم يكن الأمر استجابة إنسانية لمعاناة اللاجئين اليهود، بل تنفيذا لخطة استعمارية دقيقة، هدفها إحلال شعب مكان شعب، وحضارة مكان حضارة.

ما يجري اليوم في غزة والضفة الغربية ليس "صراعا" كما يزعم الإعلام الغربي، بل استمرارا للمشروع الاستيطاني نفسه الذي بدأ منذ أكثر من سبعين عاما؛ بهدف اقتلاع الفلسطيني من أرضه

فمع كل موجة من العنف أو الاضطهاد في أوروبا، كانت المؤسسات الصهيونية تستغل المأساة لتوجيه اللاجئين اليهود نحو فلسطين تحديدا، وليس إلى الدول التي خرجت منها، أو الدول الآمنة المجاورة.

وهكذا تحول اليهود الأوروبيون اللاجئون إلى أداة سياسية، وجهت لتغيير الواقع الديمغرافي في فلسطين تمهيدا لإقامة "الدولة اليهودية".

من اللجوء إلى الاستيطان

حين وصل هؤلاء اللاجئون إلى فلسطين، لم يأتوا كضيوف أو طالبي حماية، بل كجزء من مشروع منظم مدعوم من الإمبراطورية البريطانية. بدؤوا بشراء الأراضي بأساليب احتيالية، ثم توسعوا في بناء المستوطنات المسلحة التي كانت نواة الجيش الإسرائيلي لاحقا.

وبين عامي 1917 و1948، تضاعف عدد المهاجرين اليهود مرات عدة بسعي من "الوكالة اليهودية" و"المنظمة الصهيونية العالمية"، اللتين نظمتا نقل اللاجئين من أوروبا، ووفرتا لهم السلاح والتدريب والدعم المالي.

وحين أعلن عن قيام "إسرائيل" عام 1948، كان أكثر من 750 ألف فلسطيني قد طُردوا من ديارهم في واحدة من أبشع عمليات التطهير العرقي في القرن العشرين.

أُحرقت القرى، وهدمت البيوت، وسرقت المزارع، وأُبعد السكان الأصليون ليحل محلهم القادمون من أوروبا (اليهود الأوروبيون اللاجئون)، الذين تحولوا من ضحايا الأمس إلى أدوات للاستعمار الجديد.

المفارقة القاسية أن أولئك اليهود الأوروبيين اللاجئين الذين فروا من بطش النازية في أوروبا، تبنوا في فلسطين أساليبها ذاتها؛ فبدلا من مقاومة العنصرية، أصبحوا حاملي رايتها الجدد!

المشكلة ليست في الحرب وحدها

ما يجري اليوم في غزة والضفة الغربية ليس "صراعا" كما يزعم الإعلام الغربي، بل استمرارا للمشروع الاستيطاني نفسه الذي بدأ منذ أكثر من سبعين عاما. القصف، والقتل، والحصار، وتدمير البنى التحتية، ليست أحداثا طارئة، بل نهجا ثابتا في عقلية الاحتلال الذي يهدف إلى كسر إرادة الفلسطيني واقتلاعه من أرضه.

إعلان

المشكلة ليست في الحرب فقط، بل في الجذر الأخلاقي والسياسي للفكرة الصهيونية.. فإسرائيل ليست دولة تبحث عن الأمن، بل كيانا يعيش على نفي الآخر، ولا يمكن أن تكون "دولة يهودية" إلا إذا ألغت الفلسطيني وجودا وتاريخا وذاكرة؛ ولهذا تمارس أبشع أشكال الإرهاب باسم "الدفاع عن النفس"، بينما ترتكب جرائم ضد الإنسانية في وضح النهار.

من ضحايا النازية إلى ممارسيها

المفارقة القاسية أن أولئك اليهود الأوروبيين اللاجئين الذين فروا من بطش النازية في أوروبا، تبنوا في فلسطين أساليبها ذاتها؛ فبدلا من مقاومة العنصرية، أصبحوا حاملي رايتها الجدد! أنشؤوا نظاما يقوم على التمييز العنصري، والمناطق المغلقة، والجدران الفاصلة، والقتل على الهوية.

ما تمارسه إسرائيل اليوم، من حصار وتجويع وقتل للأطفال في غزة، هو نسخة محدثة من الإبادة التي ادعت الحركة الصهيونية أنها قامت لتحمي نفسها منها.. لقد استنسخ الصهاينة من تجربة أوروبا المظلمة أدوات القهر، ووجهوها نحو الفلسطينيين الذين لم يرتكبوا أي جريمة سوى تمسكهم بأرضهم.

في الماضي، حُشر اليهود في غيتوهات أوروبا، واليوم يحاصَر الفلسطينيون في غيتوهات غزة والضفة؛ الفرق الوحيد أن الضحية القديمة صارت الجلاد الجديد، تمارس القتل باسم الدين والتاريخ والوعد الإلهي.

لقد أصبحت فلسطين مرآة تكشف نفاق الغرب الحديث؛ فحين يكون القاتل إسرائيليا، يتلعثم الضمير الغربي ويتحول إلى متفرج صامت، أما حين تكون الضحية غربية، فالعالم كله يثور

الغرب والازدواجية الأخلاقية

ما يجعل المأساة أكثر فداحة هو صمت الغرب، بل وتواطؤه المكشوف؛ فالدول التي تدعي الدفاع عن حقوق الإنسان، هي ذاتها التي تمد إسرائيل بالسلاح والدعم السياسي في المحافل الدولية.

الإعلام الغربي يجمل الاحتلال، ويبرر جرائمه بلغة خادعة: يسمي القتل "دفاعا عن النفس"، والمجازر "عمليات عسكرية"، والمقاومة "إرهابا".

لقد أصبحت فلسطين مرآة تكشف نفاق الغرب الحديث؛ فحين يكون القاتل إسرائيليا، يتلعثم الضمير الغربي ويتحول إلى متفرج صامت، أما حين تكون الضحية غربية، فالعالم كله يثور.

هذه الازدواجية الأخلاقية ليست ظلما للفلسطينيين فقط، بل فضيحة حضارية للغرب الذي تآمر على قيمه التي يتفاخر بها.

جوهر الصراع: إنساني وأخلاقي

الصراع في جوهره ليس دينيا بين اليهود والمسلمين، كما يحاول البعض تصويره، بل هو صراع بين مستعمر جاء من أوروبا، وشعب عربي فلسطيني متجذر في أرضه منذ آلاف السنين. القضية الفلسطينية هي قضية الحرية والكرامة، قضية إنسان يواجه استعمارا مدعوما بأحدث الأسلحة وبأساليب الدعاية.

الفلسطيني لا يقاتل لأنه يكره أحدا، بل لأنه يحب الحياة كما يجب أن تحَب.. يقاتل من أجل حقه في أن يعيش على أرضه، أن يزرعها ويدفن فيها كما فعل أجداده. أما إسرائيل، فهي لا تقتل بدافع الخوف، بل بدافع الغطرسة والاعتقاد المرضي بأنها فوق المحاسبة.

سيسقط المشروع الصهيوني كما سقطت الفاشية والنازية من قبله، لأن الكيان الذي يقوم على الظلم لا يمكن أن يستمر.. الشعوب قد تقهر مؤقتا، لكنها لا تهزم أبدا

التاريخ لا يرحم

ما يحدث اليوم في فلسطين هو اختبار للضمير الإنساني؛ فالعالم الذي سمح بجرائم النازية، يصمت اليوم على جريمة جديدة لا تقل بشاعة. لكن التاريخ لا يرحم، وقد رأينا كيف سقطت أنظمة أشد بطشا وظلما، من برلين إلى بريتوريا.

سيسقط المشروع الصهيوني كما سقطت الفاشية والنازية من قبله، لأن الكيان الذي يقوم على الظلم لا يمكن أن يستمر.. الشعوب قد تقهر مؤقتا، لكنها لا تهزم أبدا.

إن من جاؤوا إلى فلسطين هربا من اضطهاد أوروبا (اليهود الأوروبيون اللاجئون) سيكتشفون يوما أن الاحتلال لا يبني وطنا، وأن الدم لا يؤسس سلاما، وأن الكراهية لا تصنع أمنا. وحدها العدالة مع ما تقتضيه من الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في أرضه يمكن أن تفتح بابا حقيقيا للسلام.

إعلان

إسرائيل ليست دولة طبيعية، بل مشروعا استعماريا أوروبيا يعيش على الكراهية والخوف. لكنها، رغم كل ما تملكه من قوة ودعم غربي، عاجزة عن كسر إرادة الفلسطيني الذي يقف شامخا في وجه آلة القتل! لقد حاولوا طمس الهوية الفلسطينية بالنار والحديد، لكنهم فشلوا، لأن هوية تروى بالدم لا تموت.

سيبقى الفلسطيني شاهدا على زمن انقلبت فيه المعايير، حين صار اللاجئ اليهودي الأوروبي جلادا، وأصبح المظلوم هو صاحب الكلمة الأخيرة.. وكما سقطت النازية في برلين، سيسقط المشروع الصهيوني في القدس.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان