غزة عند مفترق الطرق: أتُشعل الأزمة تحولا إقليميا أم تُطيل أمد الصراع؟ (2)

-على مدار عامين، نجحتْ عدسة جاد الله في التقاط الكثير من الصور التي كشفت هول جرائم الاحتلال -لم تكن صور جاد الله لقطاتٍ عابرة، بل شهادات حية على الإبادة - تضم قائمة صور جاد الله مشاهد مؤلمة رسمت صورة صادقة لعذابات غزة - يحاول جاد الله التركيز على البُعد الإنساني في الصورة لكي تنقل الألم والمعاناة بطريقة يفهمها الجميع
الكاتب: تجب السيطرة على إنتاج السرديات، ومنع أي محاولة لتبييض صورة إسرائيل أو تطبيع ممارساتها (الجزيرة)

في مسار بحثنا في الواقع الذي أفرزته الحرب الأخيرة على غزة، وتوقعاتنا لما هو قادم، وتصوراتنا لما هو مناسب، درسنا في الجزء الأول من هذه المقالة الجذور الإستراتيجية للمشروع الإسرائيلي، ثم انتقلنا إلى بيان حالة الوهن التي أصابت المحور الإسرائيلي-الأميركي.

واستعرضنا سيناريوهات المستقبل لغزة التي تقف على مفترق الطرق، حتى وصلنا إلى القول إن تجنب السيناريوهات الكارثية، وتحويل اللحظة الراهنة إلى نقطة تحول حقيقية، يتطلب الانتقال من ردود الفعل التكتيكية إلى مواجهة إستراتيجية شاملة تدور رحاها في ساحتين متوازيتين: "صراع الإرادات" و"صراع العقول والأفكار".. فكيف ذلك؟

جاء "7 أكتوبر/تشرين الأول" كتعبير عن انتفاضة فلسطينية لرفض التجاوز وفرض الإرادة بالقوة؛ وبدت المقاومة وقدرتها على الثبات تحديا مباشرا للعقيدة الإسرائيلية القائمة على أسطورة "القوة والتفوق المطلق"

صراع الإرادات: فرض القوة مقابل تثبيت الحقوق

تتمحور هذه الحرب حول إشكالية فرض الرؤية الإسرائيلية بالقوة، دون إتاحة خيارات للرفض أو القبول، تحت شعار "فرض السلام بالقوة"، وهي العقيدة التي تأسست عليها إسرائيل وظلت ترددها. تهدف إسرائيل من وراء بحثها المستمر عن تعزيز قوتها إلى فرض مسار للأمن والنمو الإسرائيلي عبر المنطقة.

في ظل سباق التنمية الذي تشهده دول مثل (مصر، والسعودية، والإمارات، وقطر وتركيا، كل من هذه الدول طرحت رؤاها المستقبلية لعشرين وثلاثين)، تبرز أهمية التحدي الفلسطيني.

إذ إن أمن إسرائيل وتنميتها الإقليمية يرتبطان في رؤيتها بالقدرة على نزع التهديد الفلسطيني وإزالته كعائق أمام أمنها ونموها. غير أن مسارات التطبيع التي تستثني الفلسطينيين لم تحسم أمرهم على طاولة القرار.

فقد جاء "7 أكتوبر/تشرين الأول" كتعبير عن انتفاضة فلسطينية لرفض التجاوز وفرض الإرادة بالقوة؛ وبدت المقاومة وقدرتها على الثبات تحديا مباشرا للعقيدة الإسرائيلية القائمة على أسطورة "القوة والتفوق المطلق"، إذ أظهرت أن إرادة شعب متمسك بحقوقه لا تنهزم بقوة السلاح، لتوصّل محاولة إسرائيل في استخدام ورقة القوة إلى تكلفة كبيرة للغاية عليها، سواء سياسيا أو اقتصاديا أو نفسيا، وعلى المستويين؛ الداخلي والخارجي.

إعلان

لكن التحدي الأكبر هو تراجع قدرتها على المنافسة الإقليمية بشكل أكبر مما كان قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول.. لذا، لا بد من ترسيخ فكرة أن طريق السلام والأمن المستدام لا يمر عبر القوة والإكراه، بل عبر مسار عادل يُعترف فيه بالحقوق، ويؤسس للتعايش.

يتجلى المسار الأول في تحويل "حرب الإرادات" إلى إستراتيجية تثبت حدود القوة العسكرية في الوعي الإسرائيلي والإقليمي، عبر توجيه القناعة إلى أن الأمن الدائم لا يُبنى على الهيمنة، بل على تسوية عادلة للقضية الفلسطينية تُرضي الطرفين.

فقد أثبت الواقع التجريبي أن القوة الساحقة عاجزة عن تحطيم إرادة شعب متمسك بحقوقه الأساسية، وأن الاستقرار الحقيقي في المنطقة لا يتحقق إلا بتحقيق العدالة وقبول الآخر.

بدلا من أن نلوم بلدان عالمنا الإسلامي لانشغالها بقضايا خاصة وداخلية تشغل معظم الأطراف، ينبغي العمل على تعبئة هذا العالم وتعزيز تقاربه حول هذه القضية المشتركة: فلسطين والقدس

حرب العقول والأفكار: الساحة الحاسمة للمرحلة المقبلة

تمثل حرب العقول والأفكار الساحة الحاسمة للمرحلة المقبلة، وللتصدي لإستراتيجيات التشتيت والإضعاف التي تنتهجها إسرائيل وحلفاؤها. يقترح هذا النموذج إستراتيجيات دفاعية-هجومية متكاملة، تشمل أولا الحفاظ على الجهود مركزة باتجاه إسرائيل، لمنع إسرائيل من نقل الصراع (أو المشكلة) باتجاه آخرين، أي تحويله من مواجهة مباشرة مع الكيان الإسرائيلي إلى صراعات داخلية وإقليمية ثانوية.

والهدف هو الحفاظ على تركيز الجهود والموارد على إسرائيل ذاتها، باعتبارها المشكلة الجوهرية.

والواقع أن الإستراتيجية الإسرائيلية لتشتيت الضغط وإدارة صراع الأفكار والعقول تعمل على مستويات:

  • المستوى المحلي: تسعى لخلق صدام بين الشعوب والأنظمة في المنطقة حول الموقف من القضية الفلسطينية.
  • المستوى الإقليمي: تعمل على خلق انقسامات إقليمية حول "غزة"، وتحويلها إلى بؤرة تنافس إقليمي.
  • المستوى العالمي: تحاول إعادة تعبئة الرأي العام العالمي ضد المنطقة تحت عنوان "مكافحة الإرهاب".

وبالمقابل، فإن التصدي لهذه المحاولات، ينبغي أن تكون له آلياته المناسبة.

أولا: على المستوى المحلي

  • لا بد من التعقل في إدارة مساحات الاشتباك بين الشعوب والأنظمة، عبر تعزيز الوعي الإستراتيجي للموقف العام لمعظم دول المنطقة، بالتمييز بين المناورة السياسية المشروعة (التي تهدف إلى تبريد الصراع المسلح لإدارته بوسائل أخرى أكثر فاعلية)، وبين الحديث عن التخلي عن القضية أو المشاركة في تصفيتها.

كما يجب بناء مناعة فكرية ضد الإستراتيجية الإسرائيلية التقليدية في محاولة توظيف تفاعلاتها مع الفلسطينيين كأداة ضغط وزعزعة للاستقرار الداخلي والإقليمي.

  • تفعيل قوة الشعوب: يهدف هذا المحور إلى منع محاولات إبعاد الجهود الشعبية ومحاولة حصر الأطراف المؤثرة في المشهد في الحكومات والأنظمة (التي يمكن استخدام أدوات متعددة لحصارها والضغط عليها)، وبالتالي تحميل الحكومات المسؤولية عن النتائج، وإنما لا بد من تفعيل قوة الشعوب. ويتطلب ذلك التركيز على آليات ضغط شعبي أكثر تنظيما.

تقوم هذه الإستراتيجية على تفعيل الضغط الاقتصادي الشعبي المنظم عبر تصعيد نوعي لحركة المقاطعة (BDS)، من المستوى الاستهلاكي الفردي، إلى المستوى الإنتاجي والمؤسسي.

وهذا يعني تجاوز المقاطعة الاستهلاكية التقليدية إلى إضرابات في المصانع والموانئ التي تخدم الاقتصاد الأميركي والغربي، بهدف فرض تكاليف اقتصادية وسياسية باهظة على الغرب، وعزل إسرائيل باعتبارها "خسارة صافية" للمصالح الأميركية.

إعلان

يشمل ذلك إضرابات منظمة في المصانع والموانئ في الدول ذات الثقل الاقتصادي العالمي، التي تمثل حلقات محورية في سلاسل التوريد العالمية.

الدافع لإدخال الأطراف في العالم الإسلامي إلى دائرة الصراع ليس فقط أن لديها إمكانات وتشبيكات خطيرة للغاية مع النظام الاقتصادي العالمي، بل أيضا لخلق شعور بالوحدة والاتصال ضمن هذا الحيز الجغرافي الأكبر في العالم

ثانيا: على المستوى الإقليمي

  • تعزيز دائرة الصراع عبر دول الأطراف ودعم قوى المواجهة: تم الآن تأسيس دور لأطراف عديدة بشكل رسمي، وهو ما يعزز أهمية الحراك الشعبي وأدوار المجتمع المدني عبر هذه الدول للعمل كمراقب وكداعم، كما في ماليزيا، وباكستان، وتركيا.

وبدلا من أن نلوم بلدان عالمنا الإسلامي لانشغالها بقضايا خاصة وداخلية تشغل معظم الأطراف، ينبغي العمل على تعبئة هذا العالم وتعزيز تقاربه حول هذه القضية المشتركة: فلسطين والقدس، التي يشكل التراخي في التصدي لها تحديا يهدد الجميع.

الدافع لإدخال الأطراف في العالم الإسلامي إلى دائرة الصراع ليس فقط أن لديها إمكانات وتشبيكات خطيرة للغاية مع النظام الاقتصادي العالمي، بل أيضا لخلق شعور بالوحدة والاتصال ضمن هذا الحيز الجغرافي الأكبر في العالم، الممتد من ماليزيا إلى المغرب.

ومن المطلوب اليوم أن تكون الأطراف مركز ثقل الحركة، بحيث تقاطع وتعمل إضرابات في عمليات التصنيع والنقل والعمل والتوريد للمنظومة الغربية ككل، وذلك لتخفيف الضغط المستمر على دول الطوق التي مضى عليها 80 عاما وهي تصارع وتتحمل الضغوط من الجميع. حينها ستتشجع دول الوسط ودول الطوق على التحرك أكثر والفعل أكثر.

وبنبغي حماية دول الطوق من تحمل الأعباء وحدها؛ فالأطراف المختلفة تجرب في مجال السياسة، بينما هذه القوى في النهاية هي من يدفع الثمن؛ فهي الأكثر تأثرا بالقضية من ناحية، والأكثر تأثرا بالتحديات التي تخلقها إسرائيل على معادلات الأمن والنمو من ناحية أخرى.

وتتحمل دول مثل مصر الثمن الأكبر، فأي حرب حقيقية ستعني أن مصر ستدفع ثمنا قد يستمر لأجيال قبل أن تسترد أي شيء من عافيتها، وعلى المستوى الاقتصادي بالأخص، بينما يرى منافسوها الإقليميون في ذلك فرصة تقاسم الثمار مع غياب طرف، من خلال خطوات مثل بناء طرق وممرات بديلة.

  • ينبغي منع تحويل قضية غزة إلى بؤرة تخلق محاور انقسام وخطوط تنافس جديدة على المستوى الإقليمي؛ فإن فشل محاولات نقل الحرب والصراع إلى المنطقة يمكن أن يقود إلى تشكل محاور تقارب عبر المنطقة، قد لا تكون في صالح إسرائيل.
  • العمل على التصدي لمحاولة تشكيل "نموذج غزة" كنموذج ناجح وقابل للاستنساخ، من خلال تعزيز حركة الدول في مسار الالتزام بفكرة القانون الدولي والمؤسسات الدولية؛ لأن هذا الوضع يعزز من تحويل القضية إلى قضية مشتركة مع أطراف متعددة تبحث عن تعزيز الوضع القائم، ومواجهة القوى التي تسعى إلى تغييره، سواء فكرة تغيير الحدود أو القانون الدولي، وذلك لمنع الضم الإسرائيلي لمناطق مثل الضفة أو غزة أو جنوب لبنان.

فهذا النموذج يمثل محاولات من قوى خارجية للمناورة من خلال مساحات حركة جديدة، تمكنها من تجاوز الدولة القومية في المنطقة، وبناء قدرات جديدة للهيمنة الإقليمية وتوجيه الأمور وفقا لرؤيتها، عبر فكرة تشكيل مناطق فراغ سلطة خارج سيطرة الدول القومية، والدعوة إلى إدارتها من خلال نظام فوق قومي وفوق إقليمي، لتصبح مناطق ارتكاز للعمليات الاقتصاية الإقليمية (مناطق تجارة حرة وعمليات اقتصادية مشتركة وممرات اقتصادية)، وكذلك مناطق ارتكاز لنظام أمن في المنطقة (نظام أمن إقليمي)، بشكل يسمح بالتحرك مع تجاوز قيود السيادة الوطنية.

إن ما نشهده اليوم ليس نهاية الصراع، بل هو بداية مرحلة جديدة بقواعد مختلفة.. لقد فتح صمود غزة الباب أمام إمكانية تاريخية لتغيير مسار الصراع برمته، لكن هذه الإمكانية لن تتحقق تلقائيا

ثالثا: على المستوى العالمي

  • السيطرة على إنتاج سرديات إستراتيجية دفاعية-هجومية: تجب السيطرة على إنتاج السرديات، ومنع أي محاولة لتبييض صورة إسرائيل أو تطبيع ممارساتها.

وليس هذا تحركا هجوميا فقط، بل هو تحرك دفاعي ضد محاولة إسرائيل وحلفائها تحويل عملية "التهدئة" إلى فرصة لتسليط الضوء على الآخر، وتصوير غزة كمنطقة حرب أهلية، والمقاومة كحركات إرهابية تصادر آراء الناس الذين يبحثون عن الحياة.

إعلان
  • ضرورة الحفاظ على الزخم: من أجل الوصول إلى حل للقضية، وعدم العودة إلى حالة التجميد.
  • ترسيخ الحقائق الإستراتيجية في الوعي العالمي: يجب العمل على ترسيخ ثلاث حقائق إستراتيجية في الوعي العالمي.
  • إسرائيل كدولة حصلت على كل أنواع الدعم الممكن من العالم بأكبر قدر ممكن، لكنها تفشل في الوصول إلى أي نتائج؛ فقد فشلت إسرائيل في تحقيق أهدافها المعلنة رغم استخدام قوة تدميرية غير مسبوقة.​
  • اتهام إسرائيل بالإبادة الجماعية أمام أعلى المحاكم الدولية، وتحولها إلى نموذج حي للإرهاب المؤسسي في نظر ملايين البشر عبر العالم.

انقلاب الصورة التاريخية: فبعد أربعة عقود من العمل على وصم المنطقة وحركات المقاومة باعتبارها إرهابا، والمنطقة باعتبارها منطقة مفرخة للإرهاب، وأن التحديات التي تواجهها المنطقة على مستوى النمو أو على مستوى الأمن هي بسبب المقاومة وبسبب الأنظمة، وليس بسبب إسرائيل، تنقلب الصورة اليوم لتصبح "إسرائيل" ذاتها هي رمز الإرهاب ومصدِرته.

ويشير الواقع إلى تحول بنيوي في الوعي الغربي، حيث انتقلت رمزية النضال من أجل العدالة من الجماعات اليهودية (التي قادت حركة الحقوق المدنية في الغرب) إلى الفلسطينيين والشرق-أوسطيين، مما يستوجب ربط القضية الفلسطينية بالنضالات العالمية من أجل العدالة والحقوق، وتحويلها إلى قضية إنسانية عابرة للحدود.

خاتمة

إن ما نشهده اليوم ليس نهاية الصراع، بل هو بداية مرحلة جديدة بقواعد مختلفة.. لقد فتح صمود غزة الباب أمام إمكانية تاريخية لتغيير مسار الصراع برمته، لكن هذه الإمكانية لن تتحقق تلقائيا؛ فهي فرصة إستراتيجية يجب اقتناصها عبر عمل دؤوب ورؤية واضحة وإرادة صلبة.

وإن الفشل في استثمار هذه اللحظة سيعني العودة إلى دوامة العنف والظلم، أما النجاح فلن يقتصر على تحقيق الحرية والعدالة للشعب الفلسطيني فقط، بل سيرسي أسس نظام إقليمي جديد أكثر استقرارا وعدلا للجميع.

الوقت في صالح المنطقة، لأن الموقف الحالي الأميركي والإسرائيلي يعلق آماله على خطط، يمكن توصيفها على الأقل بخطط متوسطة الأمد (من 5 إلى 10 سنوات)، في حين أن احتياجاتهم تتطلب تحولات سريعة الآن أو خلال عام.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان