عاشت البلاد لعقود طويلة تحت سلطة فرضت القمع على الجميع، وحتى هي نفسها كانت تعيش في حالة من الخوف. هذا الخوف انعكس بشكل مباشر على الأقليات في سوريا التي ارتبطت بها، سواء بتحالف مباشر أو تقاطع مصالح ظرفي.
شكل هذا الخوف لاحقا قوقعة انغلقت داخلها تلك المكونات؛ فعندما انهار النظام السابق، وجدت نفسها أمام واقع جديد أكثر تعقيدا، حيث تضاعفت هواجسها، وسارعت في البحث عن وسائل لحماية مكتسباتها، ولو كان ذلك عبر تشكيل قوات مستقلة، أو المطالبة بامتيازات خاصة لمناطقها، أو حتى التفكير في الاستعانة بأطراف خارجية.
المشهد الراهن في البلاد معقد بلا شك، إذ تتداخل فيه رواسب الماضي مع تحديات الحاضر. غير أن الطريق إلى تجاوز هذه المرحلة يبدأ من الاعتراف بالمخاوف المتجذرة لدى الأقليات، والسعي الحثيث لطمأنتها عبر سياسات منفتحة
السلطة الجديدة ومسؤولية تبديد الهواجس
اليوم، التحدي الأكبر أمام السلطة الحاكمة في سوريا لا يقتصر على تثبيت الاستقرار الأمني والسياسي، بل يمتد إلى إزالة ذلك الخوف المتراكم عبر ممارسة سليمة وصحية للسلطة.
وهذا يتحقق من خلال إشراك مختلف المكونات في القرار الوطني، ورأب الصدع، والعمل على دمج جميع الفئات ضمن مؤسسات الدولة، بما يعيد الثقة بين المجتمع والسلطة.
وقد اتخذت السلطة خطوات مهمة في هذا الاتجاه، أبرزها الاستعانة ببعض الشخصيات التي كانت جزءا من المشهد السابق، لكنها تحظى بقبول أو ثقة لدى بعض الأقليات.
هذا التوجه، على الرغم من حساسيته، يُحسب للسلطة الجديدة لا عليها، إذ يُظهر استعدادها لاستخدام كل الأدوات المتاحة لرأب الجراح وفتح صفحة جديدة. فبعض هذه الشخصيات باتت تشكل جسرا للثقة والأمان، وتعكس جدية الحكومة في تجاوز الماضي المؤلم نحو مستقبل مشترك.
إن ما يزيد المشهد تعقيدا هو أن السلطة ذاتها لا تزال في بدايات مرحلة صعبة، تحاول خلالها ضبط عناصر الفصائل، وتحويل عقلية "الفصيل" إلى عقلية "الوطن".
فما زال التنظيم الصارم والهرمية المؤسسية غائبين، الأمر الذي يجعل أية أزمة طارئة فرصة لانفلات الموقف، وقد ظهر ذلك جليا في محاولات بعض الأطراف دفع السلطة نحو ردود فعل متسرعة وغير محسوبة، سواء عبر الهجوم على عناصرها في مناطق الساحل، أو جرها إلى النزاعات الداخلية بين مكونات محافظة السويداء.
هذه الضغوط أدت في أحيان كثيرة إلى ردود فعل مبالغ فيها، وهو ما ساهم في تعميق المخاوف، ودفع الأقليات إلى مزيد من الانغلاق والانكماش داخل قوقعتها.
يمكن للازدهار الاقتصادي وخلق فرص العمل أن يشغل الناس في البناء، ويُبعدهم عن التوترات، ويخفف تدريجيا حالة الخوف، ويساعد على دمجهم في المجتمع؛ وهذا يعزز بدوره الاستقرار السياسي والاجتماعي
الحاجة إلى طمأنة وضمانات
لا بد للسلطة الجديدة أن تضع في أولوياتها طمأنة المكونات المختلفة، حتى لو تطلب الأمر الاستعانة بوساطات وضمانات عربية. فإشراك الدول العربية في توفير مظلة أمان ليس عيبا، بل قد يكون ضرورة في هذه المرحلة الحساسة، إذا كان ذلك سيساهم في تهدئة الهواجس، ويمنح الجميع شعورا بالاطمئنان.. ولعل الحالة اللبنانية أقرب مثال يمكن الاستدلال به هنا.
ومن بين الآليات المطروحة، يمكن الاستعانة بشخصيات اجتماعية ودينية بارزة، مثل شيوخ العشائر أو رجال الدين، ليلعبوا دور الوسيط في تعزيز الثقة وبناء الجسور بين السلطة والأقليات، ريثما يرسَخ مفهوم الوطنية ويهيمن القانون على الجميع.
الاستقرار الاقتصادي مدخل إلى الاستقرار السياسي
ما تحاول دول الخليج فعله لمساعدة سوريا على النهوض هو فرض الاستقرار بالاقتصاد على شكل مشاريع تجارية ضخمة، تهدف إلى ترميم البنية التحتية وتأمين مستلزمات الحياة الأساسية. حيث إن بناء الثقة لا يقتصر على الجانبين السياسي والأمني فقط، بل يشمل أيضا تحسين الواقع الاقتصادي.
عندما ينتصر الفكر الوطني وتترسخ دولة القانون، ستزول تلك القوقعة التي عزلت المكونات عن بعضها، لتبدأ مرحلة جديدة عنوانها الوطن الجامع لكل أبنائه
يمكن للازدهار الاقتصادي وخلق فرص العمل أن يشغل الناس في البناء، ويُبعدهم عن التوترات، ويخفف تدريجيا حالة الخوف، ويساعد على دمجهم في المجتمع؛ وهذا يعزز بدوره الاستقرار السياسي والاجتماعي.
المشهد الراهن في البلاد معقد بلا شك، إذ تتداخل فيه رواسب الماضي مع تحديات الحاضر. غير أن الطريق إلى تجاوز هذه المرحلة يبدأ من الاعتراف بالمخاوف المتجذرة لدى الأقليات، والسعي الحثيث لطمأنتها عبر سياسات منفتحة، وممارسات شفافة، وضمانات حقيقية داخلية وخارجية.
وعندما ينتصر الفكر الوطني وتترسخ دولة القانون، ستزول تلك القوقعة التي عزلت المكونات عن بعضها، لتبدأ مرحلة جديدة يكون عنوانها الوطن الجامع لكل أبنائه.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

