يخيّل لمن يراقب سلوك العديد من القيادات في الشأن العام أن الحضور الرقمي أصبح غاية في حد ذاته لا وسيلة؛ فالتوثيق المستمر والمبالغ فيه على منصات التواصل الاجتماعي، وصور الاجتماعات والفعاليات والمؤتمرات، وحتى الزيارات الميدانية، أصبح هو اللغة السائدة، والأداة لتأكيد الحضور السياسي والمجتمعي أمام الإدارات العليا وأمام القواعد الشعبية. بل تحول عند البعض إلى هوس يومي يمارس بروتينية لا تعكس عمقا سياسيا ولا رؤية وطنية.
إن التاريخ، بشقيه؛ المكتوب والرقمي، يخلد من كان صوته مسموعا من أجل إحداث تغيير حقيقي. ولا نقصد هنا التاريخ في الكتب فحسب، بل حتى ذلك الذي توثقه شبكة الإنترنت، حيث تستعيد هذه الشبكة أولئك الذين كان لهم موقف وكلمة
التمسك الشديد بالحضور الرقمي!
يرى بعضهم في الحضور الرقمي وسيلة لإرضاء القاعدة الشعبية من خلال تعزيز حضوره في الذاكرة الجماعية، وخاصة إذا كان منتخبا، فيحرص على أن يظهر أنه دائما في الميدان. ويسعى آخرون في القيادة السياسية لإثبات وجودهم النشط والمستمر، معتقدين أن الكم يغني عن النوع، وأن تكرار الظهور كافٍ لصناعة التأثير وإحداث التغيير.
اللافت في هذا الحضور المصطنع أنه لا يكون عفويا أو نابعا من تفاعل حقيقي مع قضايا الناس، بل كثيرا ما يدار ضمن أجندات مشاريع تنموية ممولة، تشترط توثيق كل اجتماع وكل فعالية.
وغالبا ما تُعقد هذه الفعاليات في فنادق فخمة لا علاقة لها بالواقع الميداني أو المجتمعي الذي يفترض أن يعمل من أجله. وهكذا يتحول العمل العام إلى ما يشبه عرضا بصريا يستهلك يوميا ولا يراكم أثرا يذكر.
ما الذي يبقى حقا في الذاكرة الشعبية؟
أهي صور الاجتماعات والمداخلات الإعلامية المصقولة، أم الأفعال الحقيقية والمواقف الجريئة التي تغير واقعا، وتواجه فسادا، وتنتصر لحقوق المواطنين؟
- الإجابة واضحة: التاريخ لم يخلد أولئك الذين كانوا الأكثر تغريدا أو الذين ملؤوا الفضاء الرقمي بالصور والاقتباسات الصحفية، بل خلد من أحدثوا فرقا فعليا، ومن كانت أصواتهم تصدح بالمطالب الشعبية، والاعتراضات الجريئة، والتعديلات البناءة، والتوصيات المؤثرة.
إن التاريخ، بشقيه؛ المكتوب والرقمي، يخلد من كان صوته مسموعا من أجل إحداث تغيير حقيقي. ولا نقصد هنا التاريخ في الكتب فحسب، بل حتى ذلك الذي توثقه شبكة الإنترنت، حيث تستعيد هذه الشبكة -في شريط ذكرياتها بعد مرور عشرات السنين- أولئك الذين كان لهم موقف وكلمة، لا أولئك الذين قصوا الشريط هنا، أو شاركوا في تدريب أو اجتماع هناك، مركزين فقط على أن تكون الكاميرا موجهة نحوهم لتوثيق لحظة رقمية تليق بصورة يقدمون بها أنفسهم.
وقد يكون كل هذا مجرد محاولة لتغطية غياب الوعي السياسي والاجتماعي، أو حتى لتبرير مواقف هزيلة ومساومات سياسية لا تليق بمن يتصدر المشهد العام. بمعنى آخر، هناك من يحاول أن يعوض خواء المضمون بزخم الصورة.
المطلوب اليوم ليس المزيد من الحضور الرقمي، بل الحضور الحقيقي في الذاكرة الشعبية والمؤسسية، من خلال مواقف تعبر عن وعي سياسي، وقرارات تستند إلى خارطة احتياجات واضحة، والتزام صادق بقضايا الوطن والمواطن
بين الأمس واليوم: ما الذي تغير؟
بالأمس، كان الحضور الإعلامي لا يصنع إلا من خلال الإعلام التقليدي، حيث كانت المقابلات والتحقيقات الصحفية والبرامج السياسية وسيلة لتقديم من يعمل في الشأن العام أمام الجمهور، بميزان النقد والتحليل لا بالمجاملة والسطحية.
أما اليوم، فقد أصبح الفرد صانع صورته الخاصة، دون رقيب أو حسيب. ومن هنا، تحول الإعلام الرقمي إلى أداة لتضخيم الذات أكثر منه وسيلة للتواصل الحقيقي مع الجمهور.
الخلل لا يكمن فقط في الوسيلة (وسائل التواصل)، بل في غياب المشروع السياسي والفكري الحقيقي لدى كثير من العاملين في الشأن العام. وحين يغيب المشروع، لا يتبقى سوى القشور: صور، وفيديوهات، ومشاركات متكررة في ندوات ومؤتمرات لا تفضي إلى شيء.
إن المطلوب اليوم ليس المزيد من الحضور الرقمي، بل الحضور الحقيقي في الذاكرة الشعبية والمؤسسية، من خلال مواقف تعبر عن وعي سياسي، وقرارات تستند إلى خارطة احتياجات واضحة، والتزام صادق بقضايا الوطن والمواطن.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

