لا شك في أن كل ما يحدث اليوم لم يعد ينال الاهتمام الطبيعي بالشكل المطلوب! عندما يتعلق الأمر بالتفاعل المنتظر، أو الذي كان يُفترض أن يحدث، مع قضية تتصل بموت الأطفال أو النسوة أو الحوامل أو العجزة.. أتساءل هنا باستغراب: لماذا أمسينا نسلط الضوء على الفئات التي تمثل درجات متقدمة من الضعف؟! أليس الحديث عن موت الإنسان كافيا؟
نعم، لقد أضحى العالم يستهلك كل التعبيرات المغالية لوصف وحشية ما تقوم به القطبية الصهيوأميركية، وما يحدث الآن في غزة؛ ليُعاد إنتاج ذلك في صور خاطفة ضمن مجالات أخرى (اليمن، سوريا، لبنان..)، خارج التاريخية العظيمة الأساس: غزة. وصمٌ عظيم يعكس ما يقع، بغية إحداث انتفاضة أكبر على مستويات العقول والضمائر، لا على دوائر الحكم.
لكن -للأسف- لا جدوى؛ لأن ما يحكم الأفراد اليوم في مختلف بقاع العالم أقوى من ذلك! الكل في حالة انفراد وتشظٍّ كبير.. إنها مجتمعات التقانة، التي أدى تقسيم العمل الاجتماعي -كما ذهب إميل دوركايم- إلى تدمير الروحي والتعاضدي فيها، وطمس المعنوي الذي أصبحت قيمته الغالية مفقودة اليوم، بعدما وقف الكل يشاهد ما يحدث من جرائم حرب وجرائم في حق العقول والنفوس دون قدرة على تحريك ساكن.
الغرابة في سياقنا الحالي لحظة أو وهلة، تحضر بشكل خاطف أمام مشهد لطفل هزيل، أو لدمار، أو لوجه شاحب لرجل ما زال على قيد الحياة ولا يعيش الحياة
فالحديث عن السياسي هو حديث عن اللاأخلاقي، وغالبا ما يتعارضان (السياسة والأخلاق)، ولا يحدث خلاف ذلك إلا في حالات الندرة؛ فالمصلحة الإستراتيجية والسياسية والاقتصادية أضحت المتعالي والأقدس، الذي تهون أمامه كل الأرواح.
ولعل ما ينتجه العالم السياسي المتطرف يُبدي له نوعا من النجاح الكاسح، لكنه نجاح لن يطول.. هكذا هي قوانين التاريخ، ومعايير دوران النخب وصعود الأمم وخفوتها. ويبدو أن كل المؤشرات لا تفيد بإمكانية حدوث تغير إيجابي عما قريب، من شأنه إحداث صحوة تهم الأمة.
ومن ثَم، لا أرى أنه من السوي انتظار أن يتحرك الساسة لممارسة ضغط ما، خصوصا في بلداننا التي قايضت بكل شيء، وسجلت نفسها بجدارة ضمن لائحة الفاشلين والأتباع في سجل التاريخ الذي لا يرحم ولا ينسى، باستثناء ما تقوم به قطر من محاولات صامدة أمام جبروت القوى المتغطرسة.. فيما عدا ذلك، يمكننا القول إننا أمام مشهد عنوانه الخنوع الرسمي.
كان من المرجح أن تكون الإنسانية في حال أفضل لولا قتلُ كل ما هو قِيمي وإنْسي، وتعظيم ما عداه في عقول الناس، حتى تجاوزت الثقافات المختلفة تصنيفات الجماعات الإثنية، التي تُستثمر في العقيدة بشكل خاطئ، وتُستغل من طرف السياسي واللوبيات المالية البراغماتية لتوجيه الرؤى ووجهات النظر نحو ما يخدمها.
وبالمقابل، قُتل المعنى بتكريس نمط موحَد يقوم على الاستهلاك وتقديس الإنتاج، الذي صب الأفراد في قوالب منفردة غابت عنها روح الجماعة، ليسهل على الكل تمرير كل شيء، والتطبيع مع غير المعقول بكل أشكاله دون أي رد فعل، كما هو الحال اليوم.
فالغرابة في سياقنا الحالي لحظة أو وهلة، تحضر بشكل خاطف أمام مشهد لطفل هزيل، أو لدمار، أو لوجه شاحب لرجل ما زال على قيد الحياة ولا يعيش الحياة.
تاريخية غزة لن تكون أبشع وأقسى على الغزيين أنفسهم من تاريخية قاسية لمن هم خارج غزة وفقدوا كل شيء، وبقوا في الحياة لكنهم -في حقيقة الأمر- في حالة البقاء على قيد الحياة
يبدو أننا نعيش لحظات تخاطب إنسانيتنا المفقودة بسرعة تشابه سرعة الضوء، ليعود بنا زمننا القاسي إلى حالات الاستهلاك القاتل، الذي أخذنا بشكل قسري نحو موت المعنى، والانغماس الكلي في سيرورة زمن الحداثة السائلة، أو لنقل الحداثة الهجينة التي لم تأخذ من الحداثة الأصيلة -كمشروع يُعنى بكل البشر ولا يختص بحقبة أو ثقافة بعينها- سوى المفاهيم والشعارات! وحتى هذه أضحت مهدَدة بالاندثار بفعل المد العظيم لمنظومة التفاهة في زمن الجهل المركَب.
لقد سبق أن حذر كثيرون مما نعيشه اليوم.. لذلك، لا أتوقع أن يضع كثيرون الأصبع على أصل المشكلة، أو يشخصوا الأمر بطريقة سديدة؛ بحكم التنميط والإفراغ القيمي والمعرفي، أي غياب الأساس الذي حُرِم منه حتى من زعموا أنهم حصلوا على درجات متقدمة من الدراسة.
فالقضية اليوم تكشف تفاقم حالات الخطر التي تصيب كل ما هو إنسي متعالٍ، بعد نجاح الإستراتيجيات التي توظفها جماعات لا تعدو أن تكون "مافيات" في قالب هيئات سياسية توظف التكنولوجيا، وتحارب كل ما هو قيمي من خلال تسليع كل شيء، وصبّ الأفراد في قوالب متفردة لتعزيز الشتات.
صفوة القول: تاريخية غزة لن تكون أبشع وأقسى على الغزيين أنفسهم من تاريخية قاسية لمن هم خارج غزة وفقدوا كل شيء، وبقوا في الحياة لكنهم -في حقيقة الأمر- في حالة البقاء على قيد الحياة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

