بعد الحرب العالمية الأولى، واجهت الدول المنهزمة في الحرب (دول المركز)، وكذلك بعض الدول التي كانت ضمن محور "الحلفاء" لكنها لم تظفر بالكثير، ظاهرة غير مسبوقة في التاريخ: صعود اليمين المتطرف في عدد من الدول.
لعب هذا التيار على وتر الروح القومية والعنجهية الوطنية والعصبية العرقية، وعلى فكرة أن شعوب هذه الدول هي الشعوب المختارة.
فهتلر- مثلا- كان يرى أن الجنس الآري هو أرقى الأجناس وأفضلها، وأنه الحامل مشعل الحضارة، وأن أبناء الشعوب السلافية الذين يعيشون في خيرات أوروبا الشرقية ما هم إلا عبيد، وأن الشعب الألماني هو الشعب المختار الذي سيخرجهم من الحياة البربرية التي يعيشونها.
أما موسوليني، فقد أثار فكرة أمجاد روما القديمة، وأسس حركة "القمصان السوداء" والحزب الفاشي والحركة الفاشية.
وعلى الرغم من أن إيطاليا كانت من دول الحلفاء في نهاية الحرب العالمية الأولى، فإنها لم تنل نصيبا كبيرا من الغنائم، فكان رد فعل اليمين المتطرف والشعب الإيطالي الغاضب أن حاصروا قصر الملك وأجبروه على تعيين موسوليني رئيسا للوزراء.
واليابان- التي كانت أيضا في صف الحلفاء- لم تحظَ بالكثير، ما جعلها تتوسع في منشوريا تدريجيا من دون أي توافقات مع القوى الكبرى، تزامنا مع تصاعد العنجهية القومية، وترسخ عقيدة الشينتوية في نفوس المقاتلين اليابانيين، ونظرتهم لأنفسهم بوصفهم الجنس الأنقى، وأن أرضهم هي الأرض المقدسة.
يشهد العالم اليوم صعودا متسارعا لليمين المتطرف، وتناميا غير مسبوق للتيار الشعبوي. ولماذا؟ للأسباب ذاتها التي أفرزته في الماضي، ولكن بعد إعادة تدويرها وإلباسها ثوب العصرية
أسباب صعود اليمين المتطرف في تلك الفترة
- الظروف المعيشية المتدهورة: كانت حكومة فايمار مثالا صارخا؛ فبسبب التعويضات المفروضة بعد الحرب العالمية الأولى قامت بطباعة مزيد من النقود، مما أدى إلى تضخم هائل وانهيار المارك الألماني (العملة الألمانية حينها). ثم جاء الكساد العظيم عام 1929 ليضرب الجميع بلا استثناء.
- انفصال الحكومات عن شعوبها: فقد كانت الحكومات في الدول المنهزمة تعمل لصالح الدول المنتصرة، لدفع التعويضات، مما جعلها في حالة انفصال عن وجدان الشعب.
- المعاهدات المهينة بعد الحرب: مثل معاهدة فرساي ومبادئ وودرو ويلسون الخمسة عشر، التي اقتطعت أراضي ومناطق من الدول المنهزمة من دون أي اعتبارات تاريخية أو ثقافية. كما فتتت الجيوش، ومنعت من التسلح بالأسلحة الثقيلة.
فالجيش الألماني، مثلا، منع من امتلاك الدبابات وسلاح الجو، وخفض عدده إلى 100 ألف جندي فقط، وكانت هذه شروطا مهينة للغاية.
- البحث عن كبش فداء: إذ نشأ الشعور بأن هناك فئة مسؤولة عن النكبة، أو عن إطالة أمد الحرب وإنهاك الدولة، وأنها لا تدين بالولاء للوطن بل لمصالحها الخاصة، فكانت تلك الفئة- في نظرهم- يهود أوروبا.
- عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية: سقط اليمين المتطرف سقوطا مدويا بعد حرب دمرت المدن وقتلت الملايين. لم يعد هذا الفكر مقبولا في وجدان الشعوب التي ذاقت ويلات الحرب.
ففي ألمانيا- على سبيل المثال- يعد مجرد التحية النازية جريمة يعاقب عليها القانون، ويلقى القبض على من يؤديها فورا.
لكن هذا الرفض لم يكن فقط بدافع الشعور بالذنب، بل لأسباب أخرى، أبرزها:
- الحرب الباردة: حيث تغير شكل الصراع من عنصري قومي إلى صراع أيديولوجي بين معسكرين: الغربي والشرقي، الليبرالي والشيوعي.
لم يعد الخطاب العنصري مطلوبا؛ لأن الفائز الحقيقي أصبح من يجذب أكبر عدد من الحلفاء.
- ظهور دول العالم الثالث: التي لم تكن منحازة لأي من المعسكرين، مما أجبر كل طرف على ارتداء قناع العطف والإنسانية لجذب تلك الدول إلى صفه.
- الخطر النووي: فالعالم بات لا يحتمل وجود شخص أحمق يتحدث بعنجهية ويقود العالم إلى فوضى الحرب النووية التي ستكون هلاكا للبشرية جمعاء.
جاءت جائحة "كوفيد-19" لتغير نمط سوق العمل وتزيد من معدلات البطالة، وتلتها أزمة الإسكان في أوروبا، لا سيما في بريطانيا وألمانيا
الحاضر: صخب جديد لليمين المتطرف
يشهد العالم اليوم صعودا متسارعا لليمين المتطرف، وتناميا غير مسبوق للتيار الشعبوي. ولماذا؟ للأسباب ذاتها التي أفرزته في الماضي، ولكن بعد إعادة تدويرها وإلباسها ثوب العصرية.
- العدو الجديد بعد الاتحاد السوفياتي: بعد سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991، كتب صمويل هنتنغتون كتابه "صراع الحضارات"، وقال إنه بعد القضاء على "الخطر الأحمر" و"الخطر الأصفر" جاء الدور على "الخطر الأخضر" -أي الإسلام- بوصفه نمط حياة مغايرا.
ومن هنا انطلقت ظاهرة الإسلاموفوبيا، وأعيد إحياء فكرة أن هناك فئة "تتعدى" على قيم الغرب وهويته، وأن الهجرة مؤامرة من اليسار لتغيير التركيبة الديمغرافية لصالحه.
- الأزمات الاقتصادية المتلاحقة: بدءا من أزمة 2008 التي دفعت دولا عديدة إلى تقليص الإنفاق العام، وتسريح قوات الشرطة، مثل بريطانيا، مما أدى إلى تراجع الأمن وانتشار السرقات.
كما تقلصت برامج الدعم الاجتماعي والتأمين الصحي.
ثم جاءت جائحة "كوفيد-19" لتغير نمط سوق العمل وتزيد من معدلات البطالة، وتلتها أزمة الإسكان في أوروبا، لا سيما في بريطانيا وألمانيا.
إن صعود اليمين المتطرف بهذا الشكل يعني- من وجهة نظري- أن القيم الليبرالية الغربية باتت في خطر حقيقي، وأن هذا الصعود الراديكالي سيستدعي رد فعل يساريا راديكاليا مضادا، كما ظهر في حادثة اغتيال تشارلي كيرك
- الجمود المؤسسي: ففي الدول ذات الثقافة الأنجلوساكسونية- كالولايات المتحدة وبريطانيا- يهيمن حزبان على الحياة السياسية، مما أوجد حالة من الجمود السياسي وعدم التمايز في البرامج.
أما في الدول ذات الثقافة اللاتينية، فهناك عتبة انتخابية تحد من صعود الأحزاب الشعبوية، كما في ألمانيا حيث العتبة 5%.
ومع ذلك، رأينا أنصار ترامب يقتحمون الكونغرس في سابقة خطيرة، ما مثل إنذارا بتحولات عميقة في المزاج العام، ظهر أثرها لاحقا في الضغوط الشعبية الغربية بعد عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وفي ردود الفعل الغاضبة تجاه تجاهل دعوات وقف الحرب.
- تراجع هيمنة الغرب: فصعود قوى مناوئة لنمط الحياة الغربية- مثل الصين وروسيا- أدى إلى تراجع سياسة الهيمنة الأميركية لصالح سياسة الموازنة، ومعها تراجع تأثير الغرب ككل.
لذلك عادت شعارات مثل "أميركا أولا" و"استعادة أمجاد الماضي"، وبرزت أحزاب مثل البديل من أجل ألمانيا (AfD)، التي تسعى إلى استنهاض النزعات القومية القديمة.
- الآلة الإعلامية والدعاية المضادة: تُستخدم وسائل الإعلام بذكاء لاصطياد مواقف جزئية وتضخيمها لتأجيج الكراهية ضد المهاجرين وضد اليسار.
وغالبا ما تكون هذه الخطابات فارغة من المضمون لكنها مؤثرة دعائيا، وفي ظل غياب الرواية المضادة، يكون الويل لمن يقع تحت مطرقة اليمين المتطرف.
إن صعود اليمين المتطرف بهذا الشكل يعني- من وجهة نظري- أن القيم الليبرالية الغربية باتت في خطر حقيقي، وأن هذا الصعود الراديكالي سيستدعي رد فعل يساريا راديكاليا مضادا، كما ظهر في حادثة اغتيال تشارلي كيرك.
ومع تمدد اليمين، ستتجه العمالة الماهرة والعقول المهاجرة إلى منافسين جدد مثل الصين وروسيا، حيث الفرص أكثر استقرارا وأقل تحاملا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

