في مدينة لا تنام إلا على صوت القصف، ولا تصحو إلا على أنين الجرحى، وُلدت حكاية شاب من غزة، لا تختلف في بدايتها عن آلاف القصص التي تنمو في ظل الحصار، لكنها تنفرد بنهاياتها التي كُتبت بالدم، وبصبر لا يُقهر.
كان في الحادية والعشرين من عمره، شابا بسيطا، يحمل بين يديه أدوات الميكانيكا، وبين ضلوعه حلما صغيرا: أن يصبح ميكانيكيا ماهرا، يرمم ما يتعطل، ويصلح ما ينكسر.
لم يكن يطلب الكثير من الحياة، فقط فرصة للتعلم، وفسحة من الأمان. لكن الحرب- كما هي دائما- لا تستأذن أحدا.. جاءت كعاصفة، واقتلعت كل شيء: تعليمه، وطموحه، وحتى توازنه النفسي الذي كان يتشبث به رغم كل شيء.
أُجريت له عملية لتفريغ العين اليمنى، لكن الإصابة لم تتوقف عند هذا الحد؛ فقد كانت هناك شظايا في اليد اليمنى، وفي البطن، وفي الكوع. خضع لعملية أخرى لإزالة الشظايا، على أمل أن يستعيد حركة يده
في أحد الأيام، وبينما كان متجها للقاء صديقه، سقط صاروخ على منزل في الشارع الذي كان يسير فيه. البيت تهدّم على رؤوس سكانه، وتحول إلى رماد، وانقطعت أنفاس من فيه عن الحياة.
الشاب كان قريبا من الموقع، فأصابته شظايا في بطنه ورجله، ولكنه رغم النزيف استمر في السير، يجرّ جسده المثقل بالألم، حتى وصل إلى خيمة لجأ إليها. هناك، لم يتردد أهل الخير، فحملوه إلى مستشفى "شهداء الأقصى"، حيث خاض الأطباء سباقا مع الزمن لإنقاذه.
مرت ثلاثة أشهر، وكان جسده قد بدأ يتعافى جزئيا، لكن القدر لم يمنحه هدنة. وبينما كان في طريقه مجددا للقاء صديقه، ألقت طائرة استطلاع قنبلة متفجرة في المكان الذي كان يقف فيه؛ لم يكن يعرف ماهيتها، ولم يدرك أنها قد تسلبه بصره. أُصيب إصابة بالغة، ونقله الشباب إلى مستشفى العودة، وهناك فقد الأطباء الأمل في حالته، فحوّلوه إلى مستشفى الأقصى.. وهناك، كانت الصدمة الكبرى!
الطبيب أخبر العائلة أن الشظايا فتّتت عينه اليمنى بالكامل، ولا يمكن إنقاذها.. الأم، حين سمعت الخبر، انهارت ولم تستطع النطق، أما الشاب فقد أغمي عليه من شدة الألم، ولم يكن قادرا على الحركة أو حتى إدراك ما يحدث حوله؛ فقد تحطم جسديا ونفسيا ودُمرت كل أحلامه. كانت لحظة مأساوية، تجمّد فيها الزمن، وتكثّف فيها الحزن حتى أصبح ملموسا.
اليوم، يعيش هذا الشاب بجسد أنهكته الشظايا، وبعين واحدة ترى العالم من زاوية مختلفة، لكن بروح لا تزال تقاوم. عائلته لم تتخلَّ عنه، بل كانت سندا في كل لحظة ضعف، وكل لحظة خوف
أُجريت له عملية لتفريغ العين اليمنى، لكن الإصابة لم تتوقف عند هذا الحد؛ فقد كانت هناك شظايا في اليد اليمنى، وفي البطن، وفي الكوع. خضع لعملية أخرى لإزالة الشظايا، على أمل أن يستعيد حركة يده. لكن بعد فترة، لاحظ أنه لا يستطيع تحريك أصابعه، وعندما راجعت والدته الطبيب، كانت الصدمة الجديدة: الشظايا وصلت إلى أصابعه، وقد يُضطر الأطباء لبتر أحدها.
رفضت الأم ذلك رفضا قاطعا، تمسكت بالأمل، وناشدت الأطباء أن يبحثوا عن حل آخر. وبفضل الله، ثم بجهود الطواقم الطبية، تمت إزالة الشظايا دون اللجوء إلى البتر.
اليوم، يعيش هذا الشاب بجسد أنهكته الشظايا، وبعين واحدة ترى العالم من زاوية مختلفة، لكن بروح لا تزال تقاوم. عائلته لم تتخلَّ عنه، بل كانت سندا في كل لحظة ضعف، وكل لحظة خوف. قصته ليست مجرد سرد لإصابات متتالية، بل شهادة حيّة على أن الإنسان في غزة لا يُهزم بسهولة، وأن الألم- مهما اشتد- لا يستطيع أن يطفئ نور الصبر.
هذه القصة ليست مجرد سرد لحادثة مؤلمة، بل هي شهادة حيّة على ما يعيشه شباب غزة من معاناة يومية، وعلى قدرة الإنسان على الصمود رغم الجراح.. كتبتها من قلب الألم، ومن عمق الإحساس بالمسؤولية تجاه من فقدوا أحلامهم تحت الركام، وتحوّلت حياتهم إلى صراع بين الحياة والموت.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
