مفهوم "الدولة" بين ابن خلدون وتوم براك

المبعوث الأميركي "توماس براك" يصف الصحفيين اللبنانيين بأنهم "حيوانيين" و "فوضويين" ويطالبهم بأن يكونوا أشخاص متحضرين
المبعوث الأميركي "توماس براك" وصف الصحفيين اللبنانيين بأنهم "فوضويون" ويطالبهم بأن يكونوا أشخاصا متحضرين (الصحافة اللبنانية)

كنت أقرأ في صفحة تعنى بتقديم طُرف خفيفة، تهدف إلى زرع الابتسامة على شفاه أتعبها الألم والحزن، نتيجة ما نراه يحيط بنا من مشاهد قتل ودمار وإذلال للكرامة الإنسانية.

وحقيقة، لفتت نظري طرفة، فيها أن أحد العوام سأل مدرسا للغة العربية: ما معنى كلمة (كَمْوج)؟ فسأله المدرس: أين قرأت هذه الكلمة؟ فقال السائل: في بيت شعر قاله الشاعر الجاهلي امرؤ القيس؛ ويقصد بذلك قوله:

وليل كموج البحر أرخى سدوله .. عـليَ بأنـــواع الهـمـوم ليـبـتـلي

فابتسم المدرس وقال: إن "كموج" التي تسأل عنها معناها: مخلوق يقرأ ولا يفهم ما يقرأ!

ابتسمت، ولكن ليس كما كنت أريد، لأن نظري وقع مباشرة على الطرفة التي تليها، والتي تقول: إن مدرسا للتاريخ كتب عبارة: "الحرب كرٌ وفرٌ"، وطلب من أحد الطلاب أن يقرأ ويشرح. فوقف الطالب وقرأ العبارة فجعل الكلمتين كلمة واحدة: "الحرب كَروفَرْ"؛ فضحك المدرس، وانتقلت العدوى إلي، فابتسمت بمرارة سأشرحها لاحقا.

(براك) قبل ذلك بأيام، قال كلاما فظا حين خاطب مجموعة الصحفيين والإعلاميين في قصر "بعبدا" بلبنان بكلمات نابية، والأخطر أنه أكد أن الوصف الذي قاله ينطبق على المنطقة كلها

هذه المقدمة أردتها أن تسبق ما أنا بصدد الحديث عنه؛ فخلال الأسابيع الماضية، لا شك أن الغالبية قد سمعوا ما قاله المبعوث الأميركي إلى سوريا ولبنان، السيد توم براك، حين وصف منطقة الشرق الأوسط بأنها لا تضم دولا، بل قرى وقبائل وعشائر!

طبعا، هو يهدف من هذا القول المغرض إلى النيل من سيادة دول المنطقة وشرعيتها، في سبيل خدمة الكيان الصهيوني المحتل، الذي يعاني أصلا من مشكلة الاعتراف بشرعيته وسيادته على الإقليم، الذي احتله بالحديد والنار والقتل والتطهير العرقي.

قول براك ليس بريئا؛ إذ إنه قبل ذلك بأيام، قال كلاما فظا حين خاطب مجموعة الصحفيين والإعلاميين في قصر "بعبدا" بلبنان بكلمات نابية، والأخطر أنه أكد أن الوصف الذي قاله ينطبق على المنطقة كلها. وكان يردد ما قاله وزير صهيوني مختل عقليا تماما: إن شعوب المنطقة "حيوانات".

توقفت طويلا عند قول المبعوث الأميركي، وتساءلت: إن لم يقرأ لابن خلدون، فهل من المعقول أنه لم يقرأ لـ"جون لوك" أو "هيغل" أو "جان جاك روسو" أو "سبينوزا"، ناهيك عن أفلاطون وأرسطو، في حديثهم عن الدولة ومفهومها وعناصرها وأدواتها؟ لقد تناول كل الذين ذكرتهم أعلاه مفهوم "الدولة"، وكيف تكتسب شرعيتها وسيادتها وقانونية وجودها.

تعريف الدولة

الدولة هي كيان سياسي منظم، يتألف من مجموعة من الأفراد الدائمين (الشعب)، يقيمون على إقليم جغرافي محدد، وتخضع هذه المجموعة إلى حكومة تتمتع بالسيادة والقدرة على السيطرة الفعالة على أراضيها، وإجراء العلاقات مع الدول الأخرى.

الأركان الأساسية للدولة

  • الشعب: مجموع الأفراد الذين يرتبطون برابطة قانونية وسياسية، ويشكلون نسيج الدولة.
  • الإقليم: المساحة الجغرافية المحددة التي يقيم عليها الشعب بصفة دائمة، وتشمل أراضيها ومياهها.
  • السلطة السيادية: الحكومة التي تمتلك السلطة العليا والقدرة على فرض سيطرتها الفعالة على أراضيها وشعبها، وتتولى إدارة الشؤون الداخلية والخارجية.

يرى ابن خلدون أن الدولة هي "الامتداد الزماني والمكاني لحكم عصبية ما". وتنشأ الدولة من قوة العصبية التي توحد مجموعة من الأفراد تحت راية مشتركة، كالدين أو الولاء

وظائف الدولة

  • تأسيس الأمن والنظام عبر سن القوانين وتنفيذها.
  • إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية بما يحقق التقدم والازدهار.
  • تنظيم العلاقات الدولية بما يخدم المصالح الوطنية.

الدولة عند ابن خلدون: مفهومها ونشأتها

يرى ابن خلدون أن الدولة هي "الامتداد الزماني والمكاني لحكم عصبية ما". وتنشأ الدولة من قوة العصبية التي توحد مجموعة من الأفراد تحت راية مشتركة، كالدين أو الولاء. ويشبهها بالكائن الحي الذي يمر بمراحل من النشوء إلى الاضمحلال.

العصبية والدولة

  • العصبية أساس الدولة: لا تقوم دولة بلا عصبية (تضامن وولاء) يربط الأفراد.
  • النشأة والتطور: تبدأ الدولة بعصبية قوية، ثم تتحول العصبية مع الترف والفساد إلى التخاذل، فتنهار الدولة.

بنظرة حيادية نجد أن جميع دول الإقليم -باستثناء كيان واحد- تتمتع بأركان الدولة الثلاثة (الإقليم، الشعب، السلطة السيادية)، واكتسبت شرعيتها منها

مراحل تطور الدولة عند ابن خلدون

  • مرحلة البداوة (القوة): العصبية القوية، والجند والمال أساس السلطة.
  • مرحلة الحضارة (النضج): تزدهر الدولة وتزداد ثروتها، وتغرق في الترف والبذخ.
  • مرحلة الاضمحلال (الهرم): تضعف العصبية، ويظهر جيل لا يملك سوى وراثة السلطة، فتنهار الدولة.

وظائف الدولة عند ابن خلدون

  • المال والجند: لتأسيس الدولة والدفاع عنها.
  • العدل: أساس العمران واستقرار الدولة.
  • القضاء: للفصل بين الناس وفق الشريعة.
  • الحسبة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

إن الكيان الصهيوني لم يكتسب "شرعيته" إلا عبر قرار الأمم المتحدة عام 1948، حتى باتت الأخيرة بمنزلة "الأب البيولوجي" لإسرائيل، بينما ظل سلوك إسرائيل تجاه الأمم المتحدة سلوك "الابن العاق" الذي تبقى شرعيته محل شك وريبة

مقارنة مع واقع الشرق الأوسط

بنظرة حيادية نجد أن جميع دول الإقليم -باستثناء كيان واحد- تتمتع بأركان الدولة الثلاثة (الإقليم، الشعب، السلطة السيادية)، واكتسبت شرعيتها منها. بل إن بعض الدول الصغيرة جغرافيا وديمغرافيا نجحت في احتلال مكانة سياسية وإنسانية وأخلاقية مرموقة، وأصبحت شريكا في مبادرات دولية ووساطة في قضايا كبرى.

إعلان

وعلى الجانب الآخر، فإن الكيان الصهيوني لم يكتسب "شرعيته" إلا عبر قرار الأمم المتحدة عام 1948، حتى باتت الأخيرة بمنزلة "الأب البيولوجي" لإسرائيل، بينما ظل سلوك إسرائيل تجاه الأمم المتحدة سلوك "الابن العاق" الذي تبقى شرعيته محل شك وريبة.

ولهذا نسمع بين الحين والآخر أصواتا متحذلقة تزيف التاريخ، فتارة تتحدث عن إعادة رسم اتفاقية سايكس- بيكو، وتارة أخرى تطعن في شرعية دول المنطقة، نتيجة جهل بقواعد السياسة، وربما نتيجة عدم قراءة ما كتبه الفلاسفة والمفكرون- وفي مقدمتهم ابن خلدون- عن مفهوم الدولة وأركانها وشرعيتها.

المهم أن الحديث دائما ينصب على الشرق الأوسط، بينما لا نسمع شيئا عن شعوب "الشايان" و"الساتاي": (الهنود الحمر، السكان الأصليين في أميركا) الذين لم تتشكل لهم دول رغم عراقتهم وتجذرهم في أرضهم.

ويبقى التاريخ شاهدا على عراقة شعوب منطقتنا، شعوب لا يهزمها المتآمرون ولا المزورون، الذين يصدق فيهم وفي أمثالهم القول: إنهم من عوالم (كَمْوج وكَروفَرْ).

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان