حين نبوح للغرباء بكل شيء

صورا للقطار فائق السرعة في المغرب "البراق" (AL BORAQ)
الكاتب: الغريب هو مرآة نقية، لا تعكس ماضينا، بل تعكس ما نحن عليه في تلك اللحظة بالضبط (الصحافة المغربية)

في لحظة عابرة، وأنت تجلس على مقعد في محطة القطار، أو في ركن هادئ من مقهى مزدحم، أو في المقعد الخلفي لسيارة أجرة، قد تجد نفسك في حوار عميق مع شخص لا تعرف اسمه، ولا تعرف شيئا عن حياته، وهو كذلك لا يعرف عنك شيئا.
تبدأ الكلمات خجولة، ثم لا تلبث أن تنساب، لتجد نفسك تبوح له بما لا تجرؤ على قوله لأقرب الناس إليك؛ تحكي له عن خيباتك، عن قلقك من المستقبل، عن قرارات ندمتَ عليها، وربما عن مشاعر لا تزال عالقة في زاوية ما من قلبك.. كل هذا لشخص لا تعرف حتى اسمه، وربما لن تراه مرة أخرى في حياتك!

لماذا نفعل ذلك؟ ما الذي يدفعنا للبوح لشخص غريب ونكتم كل ذلك عن أشخاص نحبهم ونعيش معهم؟ ولماذا يكون الغريب أحيانا أكثر أمانا من أقرب قريب؟

حين نتحدث مع شخص يعرفنا جيدا، فإننا نخضع – بوعي أو دون وعي- لحكمه المسبق، ولصورته الذهنية عنا، فنحرص على تجنب ما يخذله أو يخدش الصورة الجميلة التي رسمها لنا في مخيلته

الغريب في الأمر أننا نفعل ذلك بارتياح رهيب، ودون تردد، كأننا نبحث عمن يسمعنا لا عمن يعرفنا. نحتاج لمن يصغي لنا بصدق، دون أن يحاكمنا، دون أن يقدم النصح أو يحاول إصلاحنا؛ فقط يصغي.. ونحن نتكلم، ونتنفس، ونخفف عن أنفسنا، ثم نمضي.

هذا المشهد المتكرر ليس مجرد صدفة، بل هو جزء من الطبيعة البشرية؛ فنحن نحتاج لمن يسمعنا من دون أن تُحاكم أرواحنا أو تُقرأ نوايانا. نحن لا نبحث عن حل دائما، ولا ننتظر مشورة، إنما نحتاج لمن يصغي حقا، بإنسانية، بلا أحكام ولا شروط ولا ذاكرة طويلة.

ذلك الغريب لا يعرف تاريخك، ولا يحملك بتوقعات، ولا يدري شيئا عن ماضيك، ولا يعرف مستقبلك. ولأنك تعلم أنك لن تراه مرة أخرى على الأرجح، تصبح حرا في أن تكون على سجيتك، بلا تكلف ولا حذر، وكأنك تقول لنفسك: "سأترك هنا قطعة من قلقي، وأمضي".

حين نتحدث مع شخص يعرفنا جيدا، فإننا نخضع -بوعي أو دون وعي- لحكمه المسبق، ولصورته الذهنية عنا، فنحرص على تجنب ما يخذله أو يخدش الصورة الجميلة التي رسمها لنا في مخيلته. أما مع الغريب، فنحن نتحرر من كل ذلك، ونقول ما نشعر به حقا، لا ما يُنتظر منا قوله.

الغريب في المقهى لا يحمل معنا همّ العِشرة، ولا يُضطر بعد دقائق أن يعيد الحديث معنا كزوج أو أخ أو صديق. هو فقط هناك، بكامل تركيزه، للحظة قصيرة، كأنما الحياة منحته تلك الدقائق ليكون شاهدا على ما نمر به

الغريب هو مرآة نقية، لا تعكس ماضينا، بل تعكس ما نحن عليه في تلك اللحظة بالضبط. وربما لهذا السبب، يكتشف الإنسان عن نفسه أحيانا في حديثه مع غريب أكثر مما يكتشفه في عشرات الحوارات مع من يعرفونه جيدا.

إعلان

في لقاءاتنا العابرة مع الغرباء، نحن لا نواجه أحكامهم، بل نواجه ذواتنا. نتحدث فنسمع أصواتنا على حقيقتها، نبوح فنكتشف عمق الألم أو الهشاشة أو التوق الذي نحمله. يحدث أحيانا أن تقول جملة عادية، ثم تصمت فجأة أو تتنهد بعمق، لأنك أدركت للتو كم هي موجعة؛ لقد سمعت نفسك للمرة الأولى.

البوح ليس ترفا نفسيا، بل حاجة إنسانية عميقة. فمنذ العصور الأولى، لجأ الإنسان إلى الكلام لتفريغ مشاعره، قبل أن يعرف معنى العلاج النفسي أو جلسات الدعم الجماعي؛ كان الكلام وسيلته للنجاة من الاختناق الداخلي.

واليوم، في عالم سريع وصاخب، يكاد الإنسان لا يجد فيه لحظة واحدة ليفكر أو يشعر دون مقاطعة، أصبحت الحاجة إلى من يسمعك أكثر إلحاحا من أي وقت مضى.

لكن المعضلة تكمن في أن الناس مشغولون، مرهقون، وفي الغالب غير مستعدين لسماع غيرهم. وحين لا نجد أذنا مصغية في محيطنا القريب، نبحث عنها في المساحات الأبعد.. بين الغرباء.

الغريب في المقهى لا يحمل معنا همّ العِشرة، ولا يُضطر بعد دقائق أن يعيد الحديث معنا كزوج أو أخ أو صديق. هو فقط هناك، بكامل تركيزه، للحظة قصيرة، كأنما الحياة منحته تلك الدقائق ليكون شاهدا على ما نمر به.

أحد أكبر الأوهام التي نعيشها هو ظننا أننا نحتاج إلى حل لكل شيء. وفي الحقيقة، بعض المشاعر لا تحتاج إلى من يحلها، بل إلى من يحتويها؛ فليس كل ألم بحاجة إلى علاج، أحيانا يكون بحاجة فقط إلى من يعترف بوجوده، ويمنحك شرعية أن تشعر به. ولهذا، فإن الغريب الذي يُصغي دون أن يُقاطعك بنصائح محفوظة أو آراء جاهزة، قد يكون أكثر دعما لك من صديق يحبك لكنه يُثقلك بحلول جاهزة أو لوم مُبطن.

نحن لا نبوح للغرباء لأننا ضعفاء، بل لأننا بشر، نحمل في صدورنا ما لا نقدر على حمله طويلا. نحتاج إلى صوت آخر يسمعنا، إلى عين ترى ما لا نقوله، إلى مساحة صغيرة من الأمان، حتى لو كانت في محطة قطار عابرة

الإنصات فعلُ حب، حتى لو لم يكن بينكما حب! وهو كذلك نوع من الكرم الإنساني، إذ تفتح قلبك لشخص لا تعرفه، أو تفسح له مساحة آمنة ليقول كل ما لا يستطيع قوله لغيرك.

أذكر أنني كنت مرة جالسا في مقهى صغير أراجع بعض الأوراق، فجلس بجانبي رجل في الخمسينيات من عمره، تبدو على وجهه ملامح تعب السنين. دار بيننا حوار بسيط، ثم بدأ يتحدث عن ابنته التي لم يرها منذ خمس سنوات… لم أكن أعرفه، ولم يسألني عن اسمي، أراد فقط أن يتحدث، أن يتنفس، أن يُخرج من داخله شيئا ظل يخنقه. وحين انتهى، ابتسم وقال: "أنا آسف، لا أعرف لماذا قلت لك هذا كله!" فابتسمت وقلت: "لأنك تحتاج أن تقول ذلك، وأنا فقط كنت هنا".

تلك اللحظة لم أنسها أبدا، ولا أظنه نسيها.

نحن لا نبوح للغرباء لأننا ضعفاء، بل لأننا بشر، نحمل في صدورنا ما لا نقدر على حمله طويلا. نحتاج إلى صوت آخر يسمعنا، إلى عين ترى ما لا نقوله، إلى مساحة صغيرة من الأمان، حتى لو كانت في محطة قطار عابرة.

فلنكن في حياة الآخرين أحيانا مثل أولئك الغرباء الطيبين الذين لا يسألون، ولا يحكمون، ولا يتدخلون… فقط يُصغون.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

إعلان

إعلان