في رحاب "الحداثة السائلة" لباومان

ميدان - زيغمونت باومان عالم الاجتماع البولندي
عالم الاجتماع البولندي زيغمونت باومان (مواقع التواصل)

كانت أولى المواد الصلبة التي قررت الحداثة إذابتها، وأولى المقدسات التي قررت تدنيسها، تتمثل في الولاءات التقليدية، والواجبات، والحقوق المعهودة، التي تغل الأيدي، وتقيد الأرجل، وتعوق الحركة، وتكبح زمام المبادرة والإقدام.

الحداثة التي اعتُبرت نتيجة بديهية للتطور والتقدم الذي شهده الغرب أواخر القرن الـ19، تلتها فيما بعد مرحلة عُرفت بـ"ما بعد الحداثة"، أو "الحداثة السائلة" كما اختار زيغمونت باومان أن يسميها، في إشارة إلى صلابة وثقل ما اتسمت به مرحلة الحداثة الأولى (إذا ما سلمنا بهذا).

والسيولة والميوعة وصف لكل ما لا يتماسك، وبالتالي فهو وصف دقيق لما نلحظه ونعيشه من انحلال وتفكك لا يمكن للعاقل نفيه، فضلا عن إنكار وقوعه.

وكما يقرر باومان في النص السابق، فإن أول ما تمت إذابته والتخلص منه هو المقدسات والمسلمات التي تُعد عائقا في طريق التخفف أو التحرر؛ أي كل ثابت ومطلق. ومن ثم، الحرص على أن يصبح كل شيء متغيرا، نسبيا، وقابلا للتخلص منه بشكل أو بآخر.

هذه الإذابة تعني قبل كل شيء إسقاط الالتزامات، سواء أكانت أخلاقية أم اجتماعية، إذ تحيل العلاقات الاجتماعية -مثلا- من حالة الترابط والتماسك والصلابة إلى بناء متداعٍ هش، قابل لأن تُستبدل به أشكال أخرى من العلاقات الخفيفة، المتميزة بالقابلية للتخلص منها وتغييرها بسبب أو بدونه.

أول القيود التي يتحرر منها الإنسان هي قيود المجتمع، بضوابطه وقواعده وما يتعلق به من واجبات. وبالتالي، انتقلنا من إطار "المجتمع العادل" إلى إطار "حقوق الإنسان"، أي تركيز الخطاب على الفرد

هذا ما بشرت به الحداثة: تحول عظيم أحال المجتمع إلى هيكل مرن سائل، يسهل فيه التغيير والتخلص من الأشياء والتخلي عنها. ولكن هذا لا يعني أن جميع المكونات اتصفت بهذه السيولة، بل إن النظم الفوقية كان لها ما لها من الصلابة، وهذا طبيعي ليُتاح للقوي، الذي يملك الموازين ويسير الأمور، أن يفعل ما يشاء.

إعلان

لقد كان التحرر سمة من سمات الإذابة والسيولة التي برزت في هذه الفترة، رغم غياب القاعدة الجماهيرية لهذا التحرر؛ لأن الناس ربما لا يحبذون ببساطة أن يكونوا أحرارا، ويضيق صدرهم بإمكانية التحرر خشيةَ المصاعب والآلام التي قد تجلبها ممارسة الحرية.

ويستحضر باومان في هذا السياق القصة الشهيرة الواردة في ملحمة الأوديسا والمعنونة بـ"أوديسيوس والخنازير: الحضارة وأوجاعها".

فأوديسيوس يحاول فك السحر عن مجموعة من البحارة المتحولين إلى خنازير، لكن المفاجأة أن هذه الخنازير، حين علمت بوجود أعشاب طاردة للعنة، هربت منه.

وحين استطاع أوديسيوس الإمساك بواحد منها ودلَكه بالأعشاب، تحول إلى رجل بحار عادي، لكنه هاجم محرره وصرخ في وجهه كارها عودته إلى حالته الطبيعية؛ تلك الحياة الكريهة المقيتة التي كان يحياها من قبل -حسب قوله- بعد حالته الخنزيرية المتخففة من ثقل كل مسؤولية ملقاة على عاتقه. وقد وصف ذلك بقوله:

"لقد كنت في غاية السعادة، كنت أتمرغ في الوحل والتراب، كنت أتشمس في ضوء الشمس، كنت أعلف الطعام علفا، وأعب الشراب عبا، … كنت متحررا من التأمل والتردد".

هذا التحرر والتخفف من كل المسؤوليات كان البداية، أما ما سيصل إليه المرء فالمجهول؛ إذ إن حالة الكمال التي وعدت بها الحداثة كانت سرابا. فبمجرد أن تصل إلى مرحلة تلوح في الأفق مرحلة أكمل، وهكذا إلى ما لا نهاية. وبدل الاهتمام بإيجاد مجتمع صالح وسالم، اتجهنا نحو الفردانية.

ولعل هذا نتيجة طبيعية لدعوى التحرر؛ فأول القيود التي يتحرر منها الإنسان هي قيود المجتمع، بضوابطه وقواعده وما يتعلق به من واجبات. وبالتالي، انتقلنا من إطار "المجتمع العادل" إلى إطار "حقوق الإنسان"، أي تركيز الخطاب على الفرد.

القارئ كتاب الحداثة السائلة يتلمس قدرة باومان على وصف وتحليل الوضع الراهن، ويرجو أن يقدم له العلاجات والتخريجات المناسبة لهذه الأوضاع

هذه النزعة الفردية، التي توسعت دوائرها حتى صار الفرد هو الغاية وعليه مدار الأمر، طرحت إشكالات أخرى أفرزتها الحالة العامة من السيولة والخفة، مثل تحميل الفرد مسؤولية الفشل مع تغييب دور الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي يعيش فيها، مما يُغرقه في حالة من القلق والتردد.

كما أسهمت في انتشار حالة الاستهلاك العبثي، فهوية هذا الفرد لا تتشكل إلا من خلال ما يستهلكه، فينخرط في سباق مستمر نحو اللحاق بكل ما ينتجه السوق، وهذا ما تستغله القوى الصلبة (إن صحت التسمية).

يضاف إلى ذلك ما سبق ذكره من تفكك الروابط الإنسانية، الذي يشمل أيضا الانفكاك عن الارتباط بالزمان والمكان؛ فالإنسان الحداثي لا يخلق روابط مع الأمكنة، بل يتحرر من قيودها ويتنقل كيف شاء، وكلما كان أخفَ وأقدر على التنقل والحركة كان أنجح. ففي "الحداثة السائلة"، من يحكم هم أولئك الذين يبرعون في المراوغة، ويتمتعون بحرية الحركة من دون إشعار.

القارئ كتاب الحداثة السائلة يتلمس قدرة باومان على وصف وتحليل الوضع الراهن، ويرجو أن يقدم له العلاجات والتخريجات المناسبة لهذه الأوضاع. وإن لم تكن هذه مهمة عالم الاجتماع بالضرورة، فإن عناصر الرصد والملاحظة والفهم تمثل بداية الطريق نحو استيعاب الواقع، ومن ثم محاولة الخروج من ضيقه إلى أوسع أفق ممكن.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان