لم يعد المشهد الاقتصادي العالمي مقتصرا على صراع النفوذ بين الولايات المتحدة والصين في آسيا والمحيط الهادئ، بل امتد أثره إلى أوروبا والدول العربية على حد سواء.
فهذان الفضاءان باتا اليوم مسرحا لتنافس غير مسبوق بين اقتصاد بكين الصاعد، والنفوذ التكنولوجي الأميركي الذي يمثله وادي السيليكون، ورجال أعمال من طراز إيلون ماسك.
ومن خلال هذا الصراع، يجد الأوروبيون والعرب أنفسهم في موقع مركّب: بين حاجتهم إلى الصين كشريك تجاري واستثماري، واعتمادهم المستمر على الولايات المتحدة كقوة تكنولوجية وعسكرية.
الصين لا تكتفي بتبادل السلع، بل تسعى لتوطين الصناعات، وربط العواصم الأوروبية والعربية بمنظومة اقتصادية تدور في فلكها
الصين: التمدد عبر التجارة والبنى التحتية
تتقدم الصين في أوروبا والدول العربية بثبات، عبر الاستثمار في الموانئ، وبناء شبكات النقل، وتمويل مشاريع الطاقة المتجددة. مبادرة "الحزام والطريق" فتحت أبوابا واسعة للتغلغل الصيني في المتوسط وأفريقيا وأوروبا الشرقية، فيما تحولت الدول العربية إلى محطة رئيسية في تأمين خطوط الإمداد ونقل الطاقة.
الصين لا تكتفي بتبادل السلع، بل تسعى لتوطين الصناعات، وربط العواصم الأوروبية والعربية بمنظومة اقتصادية تدور في فلكها. إنها تستثمر في العمق، عبر الموانئ اليونانية، والإيطالية، مرورا بالسكك الحديدية في البلقان، وصولا إلى مشاريع البنية التحتية في شمالي أفريقيا، والشرق الأوسط.
إيلون ماسك وأيقونة النفوذ الأميركي الجديد
في مقابل الحضور الصيني، يبرز إيلون ماسك باعتباره رمزا لتحول النفوذ الأميركي من القوة العسكرية إلى القوة التكنولوجية. شركاته (تسلا، سبيس إكس، ستارلينك) تمثل أدوات جديدة للهيمنة، إذ تربط العالم بأنظمة اتصالات فضائية، وتعيد تشكيل مفهوم النقل والطاقة.
أوروبا والدول العربية تنظر إلى هذه الشركات باعتبارها فرصا للانفتاح على مستقبل الاقتصاد، لكنها في الوقت ذاته تعكس استمرار الهيمنة الأميركية في ثوب جديد.
فبينما تحاول بكين فرض نفوذها عبر التمويل والتجارة، تفرض واشنطن حضورها عبر التكنولوجيا والفضاء والذكاء الاصطناعي.
أوروبا تدرك أن مستقبلها الصناعي مرهون بالتكنولوجيا، لكنها في الوقت ذاته تخشى التبعية الكاملة لأميركا. أما الدول العربية، فهي ترى في هذه المنافسة فرصة للانفتاح على كلا الطرفين
أوروبا والعرب بين اليوان والدولار
المعادلة المالية تزيد من تعقيد المشهد، فالعالم العربي يصدّر الطاقة للصين ويستقبل استثماراتها، بينما أوروبا تسعى إلى موازنة علاقاتها مع بكين؛ بسبب اعتمادها على السوق الصينية.
لكن في الوقت نفسه، يبقى النظام المالي العالمي محكوما بالدولار الأميركي، ما يمنح واشنطن قدرة واسعة على التحكم في التدفقات المالية، وفرض العقوبات، وتقييد التعاملات.
الصين تحاول كسر هذا الاحتكار عبر تعزيز مكانة اليوان، وهو ما يضع أوروبا والعالم العربي أمام خيار إستراتيجي شائك: أينفتحان على اليوان الصيني ويغامران بمواجهة الضغوط الأميركية، أم يبقيان تحت هيمنة الدولار مع ما يحمله من تبعية سياسية واقتصادية؟
معركة النفوذ في فضاء مفتوح
اللافت أن ساحة المواجهة بين بكين وواشنطن لا تتوقف عند التجارة والمال، بل تمتد إلى الفضاء والذكاء الاصطناعي.
أوروبا تدرك أن مستقبلها الصناعي مرهون بالتكنولوجيا، لكنها في الوقت ذاته تخشى التبعية الكاملة لأميركا. أما الدول العربية، فهي ترى في هذه المنافسة فرصة للانفتاح على كلا الطرفين، من خلال جذب الاستثمارات الصينية في البنى التحتية، والاستفادة من التكنولوجيا الأميركية في الاتصالات والطاقة، لكن هذه السياسة محفوفة بالمخاطر؛ فأي انحياز مفرط لطرف سيجلب ردود فعل عنيفة من الطرف الآخر.
وهكذا، يجد العرب والأوروبيون أنفسهم في موقع لا يُحسدون عليه: يحاولون الموازنة بين قوتين عظميين تتنازعان على مفاتيح الاقتصاد العالمي.
المعركة الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة ليست حدثا عابرا، بل تحوّلا تاريخيا سيعيد تشكيل النظام العالمي! أوروبا والدول العربية في قلب هذه المواجهة، لأنهما تمثلان الأسواق، والممرات، والموارد
من يملك المستقبل؟
يبقى السؤال الجوهري: من يسيطر على القرار الاقتصادي في أوروبا والدول العربية؟ الصين تملك ثقل التجارة ورأس المال، فيما تملك الولايات المتحدة مفاتيح التكنولوجيا. الأولى تقدم إغراءات مالية وفرصا استثمارية، والثانية تقدم وعودا بالريادة التكنولوجية وحماية النظام الدولي القائم.
الواقع أن السيطرة المطلقة مستحيلة، لكن الخطر الحقيقي يكمن في أن تتحول أوروبا والدول العربية إلى مجرد ساحات صراع بين قوتين تتنازعان لا من أجل تنمية هذه المجتمعات، بل من أجل توسيع نفوذهما.
الخيار الأمثل أمام هذه الدول أن تستثمر في بناء قدراتها الذاتية (تطوير التعليم، دعم البحث العلمي، تعزيز التكامل الإقليمي)، بحيث تصبح قادرة على فرض شروطها بدل الاكتفاء بدور التابع.
المعركة الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة ليست حدثا عابرا، بل تحوّلا تاريخيا سيعيد تشكيل النظام العالمي! أوروبا والدول العربية في قلب هذه المواجهة، لأنهما تمثلان الأسواق، والممرات، والموارد التي يحتاجها الطرفان.
المستقبل هنا لن تحدده بكين أو واشنطن وحدهما، بل قدرة هذه الدول على انتزاع مكانة فاعلة، وعدم السماح بأن تتحول إلى رقعة شطرنج يتلاعب بها الآخرون.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

