لماذا يظل الذهب أثمن من النقود الورقية؟

إقبال من الرجال والنساء على شراء السبائك بمختلف أنواعها وأوزانها / الكويت / الذهب
الكاتب: صار المال الورقي يستمد قيمته من الثقة لا من الأصل ومن وعود الحكومات لا من وزن المعدن الثمين (الجزيرة)

بعد عودتنا من إحدى الإجازات التي أبدت فيها زوجتي سرورها، أخبرتها بالمبلغ الذي أنفقناه هناك، ثم سألتها: "لو عاد بنا الزمن إلى الوراء، وكان علينا اتخاذ القرار من جديد، فهل كنتِ ستختارين إنفاق المبلغ نفسه على تلك الإجازة؟" فأجابت بثقة: "بالتأكيد."

لكن حين كررت السؤال بصيغة مختلفة وقلت: "وماذا لو كان هذا المبلغ يعادل وزنه قطعا من الذهب؟".. ساد صمت قصير، ثم أجابت بعد تفكير: "بالتأكيد لا".

هنا أدركت أن الإجابة تغيّرت رغم أن القيمة واحدة؛ وكأن اللاوعي البشري يتعامل مع النقود الورقية بخفة لا يمنحها للذهب أو للأصول الملموسة، حتى وإن تساوت قيمتها.

فحين يتعلق الأمر بالإنفاق الكمالي، يبدو أن إدراكنا قيمة المال يتبدل تبعا لطبيعته لا لمقداره؛ فنحن لا ننفق الذهب كما ننفق النقود، رغم أنهما في النهاية يمثلان القيمة ذاتها.

عندما تقوم البنوك المركزية بزيادة الكتلة النقدية دون أن يرافقها ارتفاع في الناتج المحلي الإجمالي، يحدث ما يُعرف بـ"التضخم النقدي"

نهاية ربط النقود بالذهب

بعد أن علَّق الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون العمل باتفاقية بريتون وودز (Bretton Woods) عام 1971، انقطعت الصلة بين الدولار والذهب، ولم يعد للأوراق النقدية غطاء معدنيّ يضمن قيمتها الحقيقية. ومنذ ذلك الحين، صار المال الورقي يستمد قيمته من الثقة لا من الأصل، ومن وعود الحكومات لا من وزن المعدن الثمين.

لقد أصبح الإنفاق في زمن "النقود الورقية" أكثر تحررا، لأن البنوك المركزية قادرة على طباعة ما تشاء من العملة دون أن يكون لها مقابل من الذهب أو غيره من الأصول الحقيقية. ومع الوقت، تحولت النقود من رمز للقيمة إلى وسيلة نفسية للاستهلاك، يسهل التفريط بها لأنها بلا وزن ولا بريق.

وربما لهذا السبب، حين نفكر في إنفاق مبلغ يعادل "قطعة من الذهب"، نشعر أن القرار أثقل وأكثر جدية، بينما حين نرى الرقم نفسه على ورقة نقدية أو في حساب إلكتروني، يبدو الأمر أقل وطأة! إنها المفارقة التي صنعها نيكسون بقراره التاريخي حين فصل المال عن الذهب: جعلنا نعيش في عالم يمكن فيه خلق الثروة بضغط زر، لكن لا يمكننا بعد الآن لمسها أو الشعور بصلابتها.

إعلان

فعندما تقوم البنوك المركزية بزيادة الكتلة النقدية دون أن يرافقها ارتفاع في الناتج المحلي الإجمالي، يحدث ما يُعرف بـ"التضخم النقدي"، وهو تضخم ينشأ من زيادة المعروض النقدي لا من النشاط الاقتصادي الحقيقي. ويمكن لهذا النوع من التضخم أن يتطور -خاصة في حالات الحروب والأزمات الكبرى- إلى ما يُعرف بـ"التضخم الجامح" (Hyperinflation).

ما الذي يمنع أن تكون أصول البنك المركزي مكوّنة من معادن ثمينة بدلا من سلة عملات تتأثر بسياسات وواقع بلدانها؟

وقد سجل التاريخ العديد من الأمثلة على ذلك، أبرزها ما حدث في ألمانيا خلال عشرينيات القرن الماضي، وفي تركيا خلال التسعينيات، وفي فنزويلا، وسوريا في العقود الأخيرة، حين فقدت العملة قيمتها بسرعة مذهلة، وأصبح الناس يقيسون الأسعار بالكيلوغرامات من الأوراق النقدية.

فالمعادلة بسيطة: هي تخفيض قيمة السيولة المخزنة لدى المواطنين لصالح تمويل إنفاق الحكومة في ظل العجز عن التمويل من مصادر أخرى؛ وكأنها ضريبة غير مشروعة وغير مرئية في بداياتها، إذ تحتاج فترة من الزمن حتى يبدأ المواطن بالإحساس بأثرها.

إنها ضريبة تفرضها الحكومة على المدخرين وتحصّلها دون أن يعلموا بها أو يقدّروا أثرها بدقة.

ويزيد الأمر تعقيدا أن البنوك المركزية لا تعلن عن سياساتها بشفافية؛ فهي غالبا ما تتكتم على عمليات زيادة الكتل النقدية، ولا تفصح بتاتا عن حجم الكتلة النقدية المتداولة، ما يجعل الأثر المالي على المواطنين خفيا وبطيئا في التراكم، حتى يكتشفه الأفراد بعد أن تتقلص قيمة مدخراتهم.

المستفيد الأكبر من النظام الحالي هو البنوك المركزية نفسها، فهي الوحيدة القادرة على طباعة النقود وقتما تشاء، وبذلك تحافظ على مرونتها في تمويل الإنفاق الحكومي والتحكم بالسياسات المالية

الورق الذهبي.. العودة إلى الأصل

لنعد إلى الوراء، إلى بدايات ظهور النقود، ونحاول إسقاط فكرة التبادل القائمة على الدراهم الذهبية على واقعنا الحالي، ولكن بشكل أكثر تطورا.

تخيل أن أحد البنوك المركزية قرر إصدار عملة جديدة مغطاة بالذهب بنسبة 100%، بحيث يصدر مقابل كل غرام واحد من الذهب -مثلا- مئة وحدة نقدية، ويلتزم هذا البنك بموجب نظامه الأساسي بألا يطبع أي وحدة نقدية جديدة ما لم يمتلك ما يقابلها من الذهب الفعلي، كما يمنح حامل هذه الوحدات الحق الكامل في استبدالها في أي وقت بذهب ملموس بسعر ثابت!

في ظل هذا النظام، سنتخلص من مشكلة التضخم النقدي إلى الأبد؛ إذ ستتأثر الأسعار فقط بعوامل العرض والطلب على السلع والخدمات، ولن يكون للعرض النقدي أي أثر مباشر على الأسعار. وستصبح قيمة النقود حقيقية ومحدودة بكمية الذهب المتاح، لا بقرارات السياسة النقدية ولا بتوجهات الأسواق المالية. وسيغدو الادخار أكثر استقرارا، لأن التضخم سيكون شبه معدوم، فالكتلة النقدية لا يمكن أن تزداد إلا بزيادة احتياطي الذهب نفسه.

إذا كنت موظفا تتقاضى راتبا ثابتا شهريا، أتفضّل أن يكون راتبك محددا بمقدار ثابت من الذهب، أم بمبلغ ثابت من الدولار؟

لكن في المقابل، ستتقلص قدرة الحكومات على التحفيز الاقتصادي أو تمويل العجز المالي عبر الطباعة، ما يجعل النمو الاقتصادي أبطأ لكنه أكثر واقعية واستدامة واستقرارا، خصوصا في أوقات الأزمات. كما أن هذا النظام سيحرر الدول من كابوس هيمنة الدولار، ويعيد للنقود معناها الأصلي كـ"مخزن للقيمة"، لا كأداة سياسية واقتصادية بيد الحكومات.

إعلان

إذن، ما الذي يمنع أن تكون أصول البنك المركزي مكوّنة من معادن ثمينة بدلا من سلة عملات تتأثر بسياسات وواقع بلدانها؟
الجواب ببساطة: المستفيد الأكبر من النظام الحالي هو البنوك المركزية نفسها، فهي الوحيدة القادرة على طباعة النقود وقتما تشاء، وبذلك تحافظ على مرونتها في تمويل الإنفاق الحكومي والتحكم بالسياسات المالية.

أما المواطن ذو الدخل المحدود، فهو الخاسر الأكبر دائما؛ لأن التضخم النقدي – مهما بدا بسيطا- يلتهم قوته الشرائية عاما بعد عام، حتى وإن زاد راتبه بالأرقام.

في النهاية، يبقى السؤال الذي يستحق التأمل: إذا كنت موظفا تتقاضى راتبا ثابتا شهريا، أتفضّل أن يكون راتبك محددا بمقدار ثابت من الذهب، أم بمبلغ ثابت من الدولار؟

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان