يأخذ الأب مولوده بشوق ورفق، ويضمه إلى صدره، وقلبه يخفق حبا وحنانا، كأنه يقول: "مرحبا بك أيها الصغير في حياتي، لقد أشرقت أيامي بمجيئك". ثم ينظر في عينيه اللامعتين، فتفيض عاطفة الأبوة من قلبه، ويهمس في نفسه: ليتني أستطيع أن أهديك كل أفراح الدنيا، وأراك أنجح وأفضل مني.. نفسي فداء ضحكاتك وابتسامتك، وألا يمسك سوء وأنا حي! نم آمنا.. نم آمنا.
نرى الطفولة ضاحكة مستبشرة، تجلس على كتف الأب كأنها تعتلي عرشا صغيرا، وتُدلَل بين الأسرة التي تضحك لضحكاتها وتفرح لفرحها.
لكننا نرى الطفولة نفسها ذابلة بعد رحيل الأب؛ تمشي وحيدة على قدميها، تتعثر، تسقط، تبكي، ثم تمسح دموعها بيدها الصغيرة، وتنظر حولها فلا ترى أحدا، والناس يمرون كأنهم لا يعرفونها، وبعضهم يرمقها بنظرات قاسية.
الأبوة في غزة تعيش محنا لا توصف: محنة حماية الصغار من القصف، ومحنة البحث عن لقمة تسد جوعهم، ومحنة مواجهة أعينهم البريئة التي تسأل بلا كلام: "بابا، هل سنعيش؟"
نعم، في مجتمعنا، وحتى في عائلات الأشراف، ومع وجود أعمام وأخوال وأقارب، يحدث للطفولة بعد رحيل الأب ما يُنكَر! فكيف يكون حالها على أرض تطاردها الحرب كل يوم بدبابات وقنابل لا ترحم، تسلبها كل شيء: لقمة الطعام من يدها، بريق الطفولة من عينيها، الابتسامة من شفتيها، واليد التي تضمها، والصدر الذي يحتويها، والأب الذي يحميها ويهتم بأمورها؟
هذا كله، بل وما هو أفظع وأقسى مما نتصور، يحدث في كل لحظة مع أطفال غزة! لا يجدون ركنا يحتمون به، ولا مأوى يلجؤون إليه.. نراهم يبكون بعيون دامعة، يصرخون بجانب جثث آبائهم: "يا بابا! يا أبي، لا تتركني.. لماذا تركتني؟ يا بابا، أجبني! يا بابا لا ترحل.. أبوي راح!"
أولئك الذين كانوا بالأمس يضعون رؤوسهم على صدور آبائهم وينامون آمنين، ها هم اليوم يحملون رؤوس آبائهم بين أذرعهم الصغيرة، يضمونها إلى حجورهم كأنهم يوقظونهم من نوم طويل، وينادونهم بدموع تصرخ قبل الحناجر! كيف لطفل أن يصدق أن أباه قد رحل.. أن باباه قد استُشهد، وأن الدنيا التي عرفها قد انشطرت إلى نصفين؟
على أرض غزة، الموت يطارد الطفل من كل حدب وصوب، وأبوه في حيرة قاتلة وأسى شديد: أين يخبئ روحه؟ وكيف يحمي فلذة كبده؟ نراه يركض حاملا أطفاله على كتفه، حافي القدمين، يلهث بين الركام، يبحث عن مأمن لا وجود له، لكن الموت يسبقهم، يختبئون في البيوت، والموت يرصدهم حيث يظنون النجاة.
الأبوة في غزة تعيش محنا لا توصف: محنة حماية الصغار من القصف، ومحنة البحث عن لقمة تسد جوعهم، ومحنة مواجهة أعينهم البريئة التي تسأل بلا كلام: "بابا، هل سنعيش؟"
ما أشرف هذه الطفولة! وما أعظم هذا الامتحان! وما أكرم تلك الأرواح التي رحلت لتصنع من قلوب صغارها أمة جديدة لا تعرف الانكسار!
نعم، الأب لا يقصر في جهده، يبذل روحه ليبقى سندا قويا أمام أطفاله، يقف كالجبل وهم يتعلقون بثوبه. لكن أي قلب يحتمل كل هذا؟ وأي جسد يقدر أن يصد الموت والجوع والبرد والقصف معا؟
إنه صراع يفوق طاقة البشر، ومع ذلك يحاول الأب.. يحاول حتى آخر رمق، كأن بقاءه هو آخر حصن لأطفاله أمام الإبادة الجماعية والقتل الممنهج.
لكن.. حين يُستشهد الأب وينهدم الحصن، يقف الطفل مذهولا، لا يصدق أن أباه قد رحل وتركه وحيدا في هذا العالم القاسي! تنتهي طفولته في لحظة، فنرى في عينيه بريقا آخر.. نرى عزيمة لا نراها في الكبار، وكبرياء يتجاوز سنوات عمره القليلة.
هؤلاء الأطفال يكبرون قبل أوانهم، يحملون مسؤولية البيت، ودموع الأم، وآلام الجرحى، ويقفون أمام المحن بكرامة الرجال، كأنهم يقولون: "سنكمل الطريق يا بابا.. لن نخذل دمك ولن نسقط رايتك".
فما أشرف هذه الطفولة! وما أعظم هذا الامتحان! وما أكرم تلك الأرواح التي رحلت لتصنع من قلوب صغارها أمة جديدة لا تعرف الانكسار! فلعل دموعهم اليوم ماء يسقي بذور الغد، ولعل صمودهم اليوم بداية فجر لا ظلام بعده!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
