تبدو المواقف السياسية في مجتمعاتنا العربية مرنة جدًا حد التناقض، فتتغيّر بين ليلة وضحاها؛ تمجيدًا لمن آلت إليه موازين القوى، ما يعكس هذه الظاهرة بدقة هو المثل الشعبي القائل: "مَن يتزوج أمي أقول له يا عمي"، فمعناه يجسد تقبل السلطة الجديدة مهما كانت هويتها أو شرعيتها، ما دامت أنها باتت المتحكمة بمصائرنا، فالأم في المثل السابق هي الوطن، أما لقب "العم" وما يتبعه من حقوق في الطاعة والاحترام، فهو كناية عن كل مَن بيده سلطة عليّ.
مؤخرًا أثار مقطع لفنان سوري كان من أكبر المادحين للرئيس السوري الهارب جدلًا واسعًا؛ حيث ظهر يتغنى بالقائد العام للإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع (المعروف بالجولاني) فور إعلان هزيمة نظام الأسد. التحول في الموقف السياسي لدى هذا الفنان وأمثاله من الشخصيات العامة، يعكس مشكلة أعمق تتجاوز الفرد لتلامس بنية التفكير الجمعي في المجتمعات العربية.
تعود جذور هذا السلوك إلى إرث طويل من الحكم الاستبدادي في العالم العربي، حيث تُبنى المجتمعات على أساس الولاء للحاكم، وليس للمبادئ أو القيم. وفي ظل هذا الواقع يصبح من الطبيعي أن يغير الأفراد مواقفهم بما يتماشى مع السلطة القائم
رأينا في الانتخابات الرئاسية الأميركية نقيض ما نراه اليوم في الساحة السورية، فعلى الرغم من فوز ترامب واكتساح الجمهوريين لانتخابات الكونغرس ومجلس الشيوخ، فإن ذلك لم يؤثر في آراء معارضي ترامب، بل إن معارضتهم لشخصه وسياساته أصبحت أكثر ضراوة من أي وقت مضى.
التبعية في المجتمعات العربية إرث تاريخي أم خلل ثقافي؟
تعود جذور هذا السلوك إلى إرث طويل من الحكم الاستبدادي في العالم العربي، حيث تُبنى المجتمعات على أساس الولاء للحاكم، وليس للمبادئ أو القيم. وفي ظل هذا الواقع يصبح من الطبيعي أن يغير الأفراد مواقفهم بما يتماشى مع السلطة القائمة.
في النظم الديمقراطية الغربية، يُبنى ولاء الأفراد على أساس القوانين والمؤسسات؛ فمن النادر أن تجد مثل هذه التحولات الجذرية في المواقف هناك؛ لأن تغيير السلطة لا يعني تغيير القيم الأساسية التي تحكم المجتمع.
أما في المجتمعات العربية فالتقديس مرتبط بمن بيده السلطة، ومن ثم نلحظ التخلي السريع عن المبادئ أو المواقف بمجرد تبدل موازين القوى، وهو ما أطلق عليه السوريون مؤخرًا مصطلح "التكويع".
الفنانون: مرآة للتحولات الاجتماعية والسياسية
الفنانون بحكم دورهم كمؤثرين في المجتمع يعكسون هذه الظاهرة بوضوح، ففي سوريا مثلًا رأينا الكثير من الفنانين الذين كانوا رمزًا للولاء المطلق لنظام الأسد، أعلنوا تأييدهم للسلطة الجديدة بمجرد تبدل الظروف.
جزء من هذا التحول قد يكون مرتبطًا بالخوف أو الرغبة في البقاء، خاصة لأولئك الذين لا يملكون خيارًا بالإقامة خارج سوريا، لكنْ هناك جانب آخر يعكس المصلحة الشخصية البحتة، حيث يسعى بعضهم ليظل في دائرة الضوء، بغض النظر عن الموقف الأخلاقي أو السياسي.
ما يبشر بالخير ويبعث الأمل ليست تصريحات الفنانين بل وعي جمهورهم بحقيقتهم، ومحاولة محاكمتهم من خلال إعادة نشر مقاطعهم المؤيدة للنظام السابق.
يجب أن تُبنى المؤسسات على أساس الشفافية والعدل، بحيث لا يكون ولاء الأفراد للسلطة بل للقوانين التي تحكمها، عندما يشعر المواطن العربي أن لديه حرية التعبير دون خوف، وأن قيمه ومبادئه محترمة بغض النظر عن تغير الحكومات ستتراجع هذه الظاهرة تدريجيًا
هل التغيير دائم أم مؤقت؟
يبقى السؤال: هل هذه التحولات تعكس قناعة حقيقية أم أنها مجرد أقنعة مؤقتة تتبدل بتغير الظروف؟ للأسف، في أحيان كثيرة تكون الإجابة الثانية، فستبقى هذه التغيرات شكلية ما لم يتحسن مستوى التفكير الجمعي، أي أنها لا تعبر عن نضج سياسي أو وعي جديد.
الحاجة إلى إصلاح التفكير الجمعي
لحل هذه المشكلة لا بد من العمل على إصلاح التفكير الجمعي في المجتمعات العربية، حيث يجب أن تُزرع قيم الاستقلالية الفكرية واحترام المبادئ منذ الصغر.
كما يجب أن تُبنى المؤسسات على أساس الشفافية والعدل، بحيث لا يكون ولاء الأفراد للسلطة بل للقوانين التي تحكمها، عندما يشعر المواطن العربي أن لديه حرية التعبير دون خوف، وأن قيمه ومبادئه محترمة بغض النظر عن تغير الحكومات ستتراجع هذه الظاهرة تدريجيًا.
الخلاصة:
مثل "مَن يتزوج أمي أقول له يا عمي" ليس مجرد تعبير شعبي، بل مرآة لحالة اجتماعية وثقافية تحتاج إلى تغيير جذري، فالتحولات في المواقف السياسية والاجتماعية ليست خطأ في حد ذاتها إلا إذا كانت فجائية أو غير مبررة فتعبّر حينها عن خلل عميق في بنية المجتمعات التي تفتقد للثبات على المبادئ.
فإذا أردنا لمجتمعاتنا أن تنهض علينا أن نبدأ من الأساس المتمثل في إصلاح منظومة التفكير المجتمعية، عندها فقط سيصبح من الممكن أن نتحدث عن مواطنين أحرار لا مجرد أتباع لسلطة مهما كان لونها أو شكلها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.