شعار قسم مدونات

غزة ما بعد الحرب

صور خاصة للجزيرة نت تظهر حجم الدمار الذي لحق بمحافظة شمال قطاع غزة (4)
حجم الدمار الذي لحق بمحافظة شمال قطاع غزة يفوق التصور (الجزيرة)

مع بدء وقف عجلة الحرب في الآونة الأخيرة في قطاع غزة، والتوقف عن ممارسة دهسها البشع لأجساد الأبرياء، ينفتح بصيص أمل صغير للنازحين الفلسطينيين من شمال قطاع غزة إلى جنوبه بفعل التهجير القسري من قبل الاحتلال الإسرائيلي.

الحلم الوحيد الذي يراودني بعد تدهور حياتهم لما يقارب سنة ونصف السنة في العراء، في ظروف شاقة ومهينة، هو العودة إلى أطلال منازلهم التي هجروها، والتي باتت لا تمثّل أمكنة فحسب، بل هي حياة كاملة عاشها المجتمع الغزي وحُرم منها فجأة.

وعلى الرغم من أن شروط الوقف الحالي لا تلبي احتياجات الطرفين، فإنّ قسوة النزوح تجعل النازحين يحلمون على الأقلّ بأن يكون هذا التوقف بمثابة مركب نجاة، خاصة بعد أن غرقت غزة في الدماء، وتناثرت الأشلاء والجثث في شوارعها، وأجهزت على كل ملمح للحياة أو حتى للأمل.

وبالفعل، أصحبت الصورة في أذهان الغزيين مشوّهة كريهة بفعل المشاهد الفظيعة، التي يندى لها جبين الإنسانية.

الإنسان قوي بما يكفي كوحش كاسر، ولكنه أيضًا هشّ كفراشة!. لديه من القوة ما يحطم صخرة، ولديه من الضعف ما يجعل نسمة ريح تكسره!. لكن الفقد أكبر من كل هذا؛ إنه الزلزال الذي يخلخل استقرارنا

وإن سألنا أنفسنا: ما الذي يريده الناس في غزة الآن؟ تراودني الإجابة عن هذا السؤال بوجود احتمالات كثيرة تعود إلى ظروف الأفراد وتطلعاتهم، والشيء المشترك عند الجميع يبقى التوق للعودة والخلاص من مأوى النزوح بمختلف أشكاله، لا لأن جدران بيوت الشمال أجمل، فمعظمها دمّر، لكنها فكرة استئناف الحياة بمكوناتها الصغيرة وجوهرها الكبير.

إعلان

كلنا نتخيّل المعاناة في شمال غزة، بدءًا من هدير الطائرات المرعب، ومن هواجس الرعب التي تنتهش العقول كل مساء.

في كل صباح هادئ داخل منزلي في ألمانيا، ومع فنجان قهوة على مكتبي، أُبحر بمخيلتي إلى هناك، وأسأل نفسي: كيف يحتمل الناس الفقد؟ ففي رحلة الحياة يفقد الناس آباءهم أو أمهاتهم بعد أن يبلغوا سن الشيخوخة، حينها يكون الإنسان جاهزًا للحظة الصعبة، وربما يخفف الأمر رحلة علاجية تكون قد جهزت ما يكفي من التأهيل النفسي اللازم للوداع، لكن الموت الصادم يصيب الإنسان برجّة عنيفة تقتلع روحه من جذورها، ليبدأ مشوارًا طويلًا من الترميم لتلك الروح، أو يعيش حاملًا جرحها المزمن إلى الأبد.

الإنسان قوي بما يكفي كوحش كاسر، ولكنه أيضًا هشّ كفراشة!. لديه من القوة ما يحطم صخرة، ولديه من الضعف ما يجعل نسمة ريح تكسره!. لكن الفقد أكبر من كل هذا؛ إنه الزلزال الذي يخلخل استقرارنا، وتكمل هزاته الارتدادية انطفاءنا بتجفيف النفس، وتيبيس أغصانها بوقف الدم في عروقها، حينها تصبح الحياة ثقيلة على القلب.

لم أتوقع أن تصل الحرب في غزة إلى عتبة روحي لهذه الدرجة، وتقتحم قلبي وتمزقه أشلاء يصعب ترميمها، لدرجة أنني انطويت على نفسي، ولم أقابل أحدًا مثلما كانت حياتي قبل تلك الحرب.

لربما يعود الأمر إلى فقدي الكثير من الأحبة سابقًا في حرب سوريا الأهلية، والتي جعلت قلبي أشبه بحجر أسود لا يلمع في عيون الحجارين لكي لا يتكسر أكثر من ذلك.. نعم، أنتمي لهؤلاء الذين ودعوا كثيرين ممن كانوا في قلوبهم.

نعم، هذه هي غزة، أم العرب النابضة بأصالتها، رسخت مكانتها في قلوبنا بكل عفوية

أذكر حينها كيف تحوّلت التفاصيل الهادئة الرتيبة، التي كنا نمارسها قبل الحرب، إلى ذكريات محبّبة نتذكرها ونبكي، كأن نذهب إلى السوق لتلبية احتياجات المنزل، أو نتزاور مع الجيران والأقارب، أو أن نلبّي دعوات مناسبات الأفراح، أو حتى زيارات التعزية بوفاة أحد الأقارب أو الأصدقاء أو حتى الجيران، لكن ليس كمَوْت الإبادة الذي جلبته الحرب. تلك الحياة الضجرة، الممتلئة بالمناكفات والأقاويل العبثية مع الأصدقاء والأهل، هي الحياة التي كنت أقول عنها: "أتمنى أن تعود".

إعلان

أذكر أيضًا ذاك الملل في رحلة البحث المضنية عن غالونات الماء المالحة، أو المحلاة المغشوشة، وتعبنا من طوابير الخبز الطويلة، والوقوف عاجزين لساعات لا نستطيع أن نسند ظهورنا إلى حائط، حتى نحصل على بضع رقاقات من الخبز الذي لم نعتد على أكله سوى في الحرب، وقد لا نحصل عليه آخر اليوم إذا نفدت كمية الطحين دون أن يصلنا الدور.

وبالعودة إلى حرب غزة، فتلك الحرب ليست مختلفة بوحشيتها عن الحرب في سوريا؛ قد تختلف بالأسباب والتسميات، ولكنها بالنتائج متشابهة.

ففي كل الحروب أطفال يدفنون مستقبلهم الحالم وألعابهم وابتساماتهم البريئة؛ ونساء ينتظرن دفء الحبيب وعش الزوجية، ورجال يتطلعون للغد بتفاؤل يرونه بعيون كل من حولهم، وحياة تمد البشر بما يكفي من وقود الاستمرار.. هكذا بلمحة تضعك الحرب أمام صورهم وضحكاتهم، ومزاحهم وحبهم وذكرياتهم، وكلماتهم التي تتحول بسخرية التاريخ إلى وصايا الراحلين.

نعم، هذه هي غزة، أٌم العرب النابضة بأصالتها، رسخت مكانتها في قلوبنا بكل عفوية..

رحم الله كل وجه باسم، وكل روح طاهرة، وكل خلق رفيع، وكل نفس راضية فيها.. رحم الله روحًا تعلمنا منها كيف يكون عشق الوطن ببساطة، ورحم الله قلبًا لو فنيت الدنيا ما أتت بمثله!. رفعت الأقلام وجفت الصحف.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان