تحت وطأة السرديات التي تفصل بين الحقيقة والوهم، يقف كتاب "أسطورة الكسل الملايوي" للمفكر الماليزي سيد حسين العطاس، الصادر عام 1977، كصرخة في وجه السرديات الاستعمارية التي شَوهت الهوية الملايوية، وجعلتها أداة لتبرير الهيمنة الثقافية والاقتصادية.
يناقش الكتاب كيف خلق الاستعمار البريطاني صورة نمطية تصور الملايويين على أنهم "كسالى"، وهي صورة استُخدمت كذريعة للتدخل الأجنبي تحت شعارات "التطوير" و"التحضر".
ووفقًا للعطاس، لم تكن هذه السرديات مجرد وصف اجتماعي، بل كانت أداة سياسية تهدف إلى نزع الشرعية عن الملايويين وتحويلهم إلى مجتمع يُنظر إليه على أنه غير قادر على تحقيق إمكاناته.
مثل هذه السرديات لم تكن ظاهرة محلية فقط، بل امتدت عالميًّا وشملت شعوبًا أخرى، ما يُظهر أنها كانت إستراتيجية استعمارية منهجية.
إن تصوير الملايويين على أنهم يتصفون بـ"الكسل" كان جزءًا من مشروع استعماري أكبر، يهدف إلى إعادة تشكيل المجتمع الملايوي بما يخدم المصالح الاستعمارية، حيث خلق الاستعمار نظامًا اقتصاديًّا غير متكافئ دفع الملايويين إلى هامش الاقتصاد التقليدي
من هم الملايويون؟
الملايويون هم السكان الأصليون لماليزيا ومناطق واسعة من أرخبيل نوسانتارا في جنوبي شرقي آسيا، بما في ذلك أجزاء من إندونيسيا، وبروناي، وجنوب تايلاند وأجزاء من الفلبين وفيتنام.
فيما يشكل الملايويون أحد أبرز المجتمعات العرقية في المنطقة، ويتميزون بثقافة غنية ترتبط بالتقاليد الإسلامية، والتأثيرات الهندية والصينية التي اندمجت تاريخيًّا في هويتهم.
يُظهر العطاس -الذي ينتمي إلى العرقية الملايوية رغم جذوره العربية- أن هوية الملايويين ليست كيانًا جامدًا، بل منظومة ديناميكية تطورت عبر القرون استجابةً للتحولات التاريخية والاجتماعية. وقد كان للملايويين دور محوري في التجارة البحرية، حيث برزت مملكة سريفيجايا في القرن السابع كقوة بحرية مؤثرة، تلتها سلطنة ملقا في القرن الخامس عشر، التي شهدت ازدهار التجارة والثقافة.
ورغم التداخل الثقافي مع أعراق أخرى، تظل اللغة الملايوية العمود الفقري للهوية الملايوية؛ فالملايوية تُعد اليوم اللغة الرسمية في ماليزيا وبروناي، وإحدى اللغات الوطنية في إندونيسيا وسنغافورة. هذه اللغة ليست فقط وسيلة للتواصل، بل أداة تُعزز التفاهم والانتماء بين الملايويين، ما يعكس غناهم الثقافي واستمرارية تأثيرهم الإقليمي.
الاستعمار والكسل الممنهج
يرى العطاس أن تصوير الملايويين على أنهم يتصفون بـ"الكسل" كان جزءًا من مشروع استعماري أكبر، يهدف إلى إعادة تشكيل المجتمع الملايوي بما يخدم المصالح الاستعمارية، حيث خلق الاستعمار نظامًا اقتصاديًّا غير متكافئ دفع الملايويين إلى هامش الاقتصاد التقليدي، بينما جرى استيراد عمالة أجنبية من الهند والصين للعمل في القطاعات المربحة كالتعدين، والزراعة التجارية.
هذا التهميش لم يكن صدفة، بل كان نتيجة لسياسات ممنهجة، تهدف إلى إضعاف الملايويين، ومنعهم من تحقيق إمكاناتهم. وأطلق العطاس على هذا النمط اسم "الكسل الممنهج"، وهو كسل مفروض نتيجة قيود سياسية واقتصادية.
في هذا السياق، يوضح الكتاب كيف تُستَخدم الصور النمطية كأداة فعّالة لترسيخ الهيمنة الثقافية والاقتصادية عبر تقويض الهويات المحلية وفرض قيم القوة المهيمنة، وتُصوَّر الشعوب المهمّشة بشكل يقلل من شأنها، ما يسهل السيطرة عليها واستغلال مواردها، مع تعزيز السرديات التي تُكرّس تفوق القوى المهيمنة في مختلف المجالات.
تشير رؤية العطاس هذه إلى انسجامها مع فلسفة عالم الاجتماع الفرنسي ميشيل فوكو، الذي ركز على العلاقة بين السلطة والمعرفة؛ إذ يرى فوكو أن السلطة لا تعمل فقط من خلال القوانين أو المؤسسات، بل تُنتج المعرفة وتُعيد تشكيلها لتبرير هيمنتها وتعزيز نفوذها.
هذه الديناميكيات تجعل المعرفة أداة تستخدمها السلطة لإعادة تعريف الهويات والسرديات بشكل يخدم مصالحها. وفي سياق الاستعمار، استُخدمت هذه الآلية لخلق صور نمطية تسوغ إخضاع الشعوب المستعمَرة، مثل تصوير الملايويين ككسالى.
على الرغم من انتهاء الحقبة الاستعمارية رسميًّا، فإن إرثها لا يزال حاضرًا بقوة في الخطاب السياسي والاجتماعي، خاصة في ماليزيا، حيث تتكرر السرديات الاستعمارية بشكل مباشر أو غير واعٍ
تجربة الملايويين ليست استثناءً، فقد استخدم الاستعمار السرديات ذاتها ضد شعوب أخرى، أبرزها سكان جزيرة جاوة الإندونيسية، الذين وثّق الكاتب الهولندي مولتاتولي معاناتهم في روايته الشهيرة "ماكس هافلار"، حيث تسلط الرواية الضوء على الاستغلال الممنهج الذي مارسته شركة الهند الشرقية الهولندية، عندما استُخدمت مزادات القهوة كأداة رئيسية للهيمنة الاقتصادية، ما أدى إلى إفقار السكان المحليين واستنزاف مواردهم.
الرواية -التي أصبحت رمزًا للنضال ضد الاستعمار- تكشف كيف أن هذه الأنماط القمعية كانت إستراتيجية متكررة لتقويض الشعوب الأصلية، اقتصاديًّا وثقافيًّا.
إعادة بناء السردية الذاتية
ما يجعل كتاب "أسطورة الكسل الملايوي" مميزًا هو أنه لا يكتفي بتفكيك السرديات الاستعمارية، بل يدعو إلى رؤية شاملة للتحرر من إرث الهيمنة، حيث يرى العطاس أن استعادة السردية الذاتية للشعوب الملايوية تبدأ بالتعليم والتمكين الاقتصادي.
التعليم، من وجهة نظره، ليس مجرد أداة لاكتساب المعرفة، بل وسيلة لتحرير الوعي من القيود التي فرضتها السرديات الاستعمارية، إنه وسيلة لفهم التاريخ والثقافة من منظور داخلي يعيد بناء الهوية على أسس الإمكانات الحقيقية، وليس على الصور النمطية المفروضة.
أما التمكين الاقتصادي، فهو يُكمل هذه الرؤية التعليمية، حيث يتيح للملايويين فرصة استعادة مواقعهم في القطاعات الإنتاجية، وإثبات قدرتهم على المساهمة بفاعلية في بناء مجتمعهم ومستقبلهم.
وعلى الرغم من انتهاء الحقبة الاستعمارية رسميًّا، فإن إرثها لا يزال حاضرًا بقوة في الخطاب السياسي والاجتماعي، خاصة في ماليزيا، حيث تتكرر السرديات الاستعمارية بشكل مباشر أو غير واعٍ. كما تُستخدم تلك السرديات لتغذية الانقسامات العرقية، أو لتعزيز سياسات تخدم مصالح مجموعات معينة، ما يكرّس الفجوات الاجتماعية والاقتصادية.
ويُلاحظ ذلك في الخطابات التي تروج لفكرة تفوق عرق معين أو تلقي اللوم على الملايويين بوصفهم عقبة أمام التقدم، وهو ما يعيد إنتاج ديناميكيات التفرقة والهيمنة التي أرستها القوى الاستعمارية سابقًا، لكن بطرق معاصرة تخدم المصالح الحزبية.
إن كتاب العطاس، وفكر ميشيل فوكو، ورواية ماكس هافلار، تكشف جميعها أن هذا التحدي يتجاوز ماليزيا ليشمل أفريقيا والعالم العربي وجنوبي شرقي آسيا، حيث تواجه الشعوب التي تعرضت للاستعمار سؤالًا ملحًّا: كيف تعيد صياغة هوياتها وتستعيد سردياتها الذاتية بعيدًا عن الصور النمطية التي فرضتها قوى الهيمنة؟
الإجابة تبدأ برفض السرديات الجاهزة، والعمل على بناء روايات جديدة تُعبر عن هوية الشعوب دون تأثير الاستعمار.
يُقدم كتاب "أسطورة الكسل الملايوي" رؤية عميقة، تُضيء الطريق للتحرر من السرديات الاستعمارية التي شوهت الهوية وحاولت إخضاع الشعوب؛ ويُظهر الكتاب كيف يمكن للكلمة أن تكون أداة قوية لإعادة بناء الوعي وتصحيح المفاهيم الخاطئة
التعليم هنا يؤدي دورًا أساسيًّا في إعادة تشكيل الوعي الجمعي، عبر تدريس تاريخ الشعوب من منظورها الخاص، وترسيخ قيم التحرر الفكري، كما أن التمكين الاقتصادي يُمكّن المجتمعات من صياغة مصائرها بعيدًا عن تبعات الهيمنة الاقتصادية.
أفكار ميشيل فوكو حول تفكيك السلطة والمعرفة تسلط الضوء على أهمية هذه الخطوات، وكتاب "أسطورة الكسل الملايوي" يُذكرنا بأن التحرر الحقيقي لا يبدأ بالبندقية، بل بالكلمة وبإعادة صياغة الذات بما يتجاوز إرث الهيمنة الثقافية والسياسية.
دعوة للتفكير والعمل
يُقدم كتاب "أسطورة الكسل الملايوي" رؤية عميقة، تُضيء الطريق للتحرر من السرديات الاستعمارية التي شوهت الهوية وحاولت إخضاع الشعوب؛ ويُظهر الكتاب كيف يمكن للكلمة أن تكون أداة قوية لإعادة بناء الوعي وتصحيح المفاهيم الخاطئة.
في زمن تُكتب فيه الهويات بخطوط الماضي والحاضر معًا، يدعو الكتاب الشعوب المستعمَرة إلى استعادة حقها في السرد، وصياغة تاريخها بحروف الحقيقة لا بظلال الأكاذيب.. إنه شهادة بأن أعظم أدوات التحرر ليست في اليد، بل في الفكر والكلمة، القادرين على كسر قيود الماضي وصنع مستقبل مشرق.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
