شعار قسم مدونات

جذور الاحتقار: فلسفة "الأنا" و"الآخر"

Omran Abdullah - سقراط يحاور أسبازيا،نيكولا مونساو١٨٠٠ - سقراط الشاب والوقوع في الحب، هل شكلت تجربة الفيلسوف اليوناني الغرامية أصول الفلسفة الغربية؟
النظرة الدونية التي ينظر بها الغرب إلى الشرق الأوسط ليست قدَرًا محتومًا بل هي بناء تاريخي يمكن تفكيكه (الجزيرة)

لا يمكن النظر إلى العلاقة بين الشرق الأوسط والغرب دون استحضار تاريخهما الطويل الممتد عبر القرون، حيث تتجذر تصورات وصراعات شكّلت العقل الجمعي لكل منهما.

بيد أنّ المسألة ليست مجرد علاقة بين طرفين مختلفين؛ إنها تجسد نظرة الغرب الدونية التي يحملها إلى المنطقة، وهي نظرة أعمق من كونها مجرد اختلافات ثقافية أو سياسية، بل لها جذور فلسفية وتاريخية قديمة، تهيمن حتى اليوم على العقلية الغربية عند تعاطيها مع الشرق.

الغرب لا يرى الشرق شريكًا في صنع العالم الحديث، بل يعتقد أنّ دوره ينحصر في "تطبيق" ما يفهمه الغرب عن السياسة والاقتصاد، أو حتى الهوية

جذور الاحتقار: فلسفة "الأنا" و"الآخر"

يرى الفيلسوف إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق" أنَّ الغرب قد صنع صورة نمطية للشرق كـ"آخر" مختلف، بل متخلّف، ليعزز هويته هو كطرف متفوق. هذا الخطاب الاستشراقي لم يكن بريئًا، بل كان أساسًا لتبرير مشاريع الهيمنة الاستعمارية والاقتصادية لاحقًا.

ترسخت صورة الشرق الأوسط في المخيلة الغربية كمنطقة مشحونة بالفوضى والعجز عن الإدارة، وقاصرة عن "فهم" السياسة والحداثة كما ينبغي.. إنَّ مثل هذه الصور ترجع إلى ما وصفه ابن خلدون في مقدمته الشهيرة بقوله إن: "المغلوب مولع بتقليد الغالب"، وهو مفهوم يشير إلى الآلية النفسية والاجتماعية التي تجعل الطرف الضعيف يرى في الغالب نموذجًا مثاليًّا للحياة والسلطة، فيتبع خطواته دون مساءلة.

إعلان

وبهذا المعنى، لم يفرض الغرب فقط سيطرته المادية على المنطقة؛ بل فرض أيضًا تصوراته وتفسيراته التي أعاد إنتاجها كثير من العرب أنفسهم.

لماذا يعتقد الغرب أنه أفضل؟

يرجع هذا الاعتقاد إلى فكرة "المركزية الغربية" التي تبلورت مع عصر النهضة الأوروبي، حيث جرى تصوير الغرب باعتباره مركز التنوير والعلم، والتفوق الأخلاقي. على العكس، جرى تصوير بقية العالم- خاصة الشرق الأوسط- كمساحات "مظلمة" بحاجة إلى الوصاية والإصلاح. هذه الرؤية تحولت إلى سياسات اقتصادية وثقافية وحتى عسكرية عبر الزمن، ما رسّخ مزيدًا من الانقسام والاختلال.

فالغرب لا يرى الشرق شريكًا في صنع العالم الحديث، بل يعتقد أنّ دوره ينحصر في "تطبيق" ما يفهمه الغرب عن السياسة والاقتصاد، أو حتى الهوية. هذا الإقصاء يجعل المنطقة تدور في دوائر مفرغة من التبعية وعدم الاعتراف.

العقل الغربي، في تجلياته الحديثة، لم يتخلص بعد من عقدة التفوق التي ترجع إلى زمن الاستعمار؛ بل إن هذه العقدة قد تعززت مع الهيمنة التكنولوجية والاقتصادية

موارد ضد الشعوب

إنّ استخدام الموارد الغربية في "إدارة" الشرق الأوسط، سواء عبر التدخل المباشر أو غير المباشر، يُظهر التناقض العميق بين خطاب الغرب عن الديمقراطية والحرية، وسلوكياته العملية التي تكرس الهيمنة. الغرب يسيطر على الموارد الطبيعية عبر وكلائه، ويستخدم أدوات القوة الناعمة: (الإعلام، التعليم، المنظمات الدولية) لفرض رؤيته "المطلقة" على شعوب المنطقة.

أمام هذا المشهد، يصبح التساؤل مشروعًا: لماذا ينظر الغرب إلى نفسه كأذكى، وأحق بالقيادة؟ ولماذا يقع بعض العرب في فخ الإيمان بهذه المركزية؟

عقدة التفوق والوعي الجمعي

العقل الغربي، في تجلياته الحديثة، لم يتخلص بعد من عقدة التفوق التي ترجع إلى زمن الاستعمار؛ بل إن هذه العقدة قد تعززت مع الهيمنة التكنولوجية والاقتصادية. في المقابل، تعاني بعض الشعوب في الشرق الأوسط من أزمة هوية ووعي، جعلتها تصدّق خطاب التفوق هذا.

إنّ تجاوز هذه النظرة الدونية يبدأ من "الوعي الذاتي" بقدرة شعوب الشرق الأوسط على إنتاج المعرفة، وصياغة هوية حضارية حقيقية لا تستنسخ نماذج خارجية. فكما قال مالك بن نبي: "إنّ الشعوب لا تتحرر إلا إذا أدركت أنها تمتلك قدرات مساوية لغيرها إن لم تكن أعظم".

التغيير يبدأ عندما نؤمن بأنَّ الهوية الحقيقية تُبنى بالاستقلال الفكري والوعي الحضاري، لا بالتبعية أو التقليد

نحو رؤية بديلة

النظرة الدونية التي ينظر بها الغرب إلى الشرق الأوسط ليست قدَرًا محتومًا، بل هي بناء تاريخي يمكن تفكيكه.. المطلوب ليس رفض الآخر بالمطلق، بل إدراك أنَّ الغرب ليس معيارًا مطلقًا للحضارة والفكر، وأنَّ الشرق قادر على النهوض بموارده الفكرية والحضارية إذا ما بدأ رحلة نقد الذات، وتحرير العقل من القيود التي صنعها الاستعمار والاستشراق.

إعلان

إنَّ التغيير يبدأ عندما نؤمن بأنَّ الهوية الحقيقية تُبنى بالاستقلال الفكري والوعي الحضاري، لا بالتبعية أو التقليد. الشرق الأوسط ليس مجرد "آخر" في معادلة الغرب؛ إنه مركز حضاري عميق، يمكنه أن يساهم في إعادة التوازن إلى عالم يعاني من اختلال القيم والعدالة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان