شعار قسم مدونات

الثورة الصامتة في سوريا

ملصقات المفقودين في شوارع ومعالم دمشق الجزيرة
ملصقات المفقودين في شوارع ومعالم دمشق (الجزيرة)

في القرن الذي نعيش فيه هناك فرحتان لا يمكن أن ينساهما أحد؛ الأولى هي عندما أُعلنت السيطرة على وباء كورونا، وأنه لا حاجة بعد الآن لارتداء القناع مرة أخرى. هذه المرة التي سمعت  فيها هذا الخبر -عدم ارتداء القناع- كانت تعني التحرير الحقيقي لي وللبشرية، تلك الفرحة لا ينساها كثيرون منا، بعد أن اعتدنا على ارتداء القناع خائفين من الوباء وشره. ولكن الوباء الذي أنا بصدد الحديث عنه هو وباء يدعى "الخوف من النظام".. فما هي قصة هذا المرض؟!

القناع الذي كان يرتديه السوريون عبر وسائل التواصل الاجتماعي هو استخدام وسائل للحماية من اختراق الحسابات، وإنشاء أكثر من حساب، واحد شخصي والآخر سياسي لا يعرف عنه أحد شيئًا، حتى الأقرباء والأصدقاء

هذا المرض الذي أصيب به كثير من السوريين، ناتج عن وباء نظام الأسد وعائلته، حيث أجبر كثيرين من السوريين على التخفي والعمل بشكل سري لخدمة الثورة السورية؛ خوفًا من بطش النظام وأذاه، وأعلم أن كثيرًا من السوريين المعارضين للنظام كانوا يمارسون العمل الميداني الخادم للثورة السورية بشكل سلمي عن طريق نشر الأخبار، والمشاركة في التنسيقيات من داخل دمشق- قلب النظام- والمحافظات الأخرى.

ولكن هذا العمل على الرغم من أن أهدافه الإعلامية والدعائية كانت أن تُظهر حقيقة النظام، فإنه كان يبحث عن النشطاء العاملين فيه، كان يخاف من الصورة على الرغم من أن المجازر ورائحة الدماء والدمار تتحدث عن نفسها.

إعلان

القناع الذي كان يرتديه السوريون عبر وسائل التواصل الاجتماعي هو استخدام وسائل للحماية من اختراق الحسابات، وإنشاء أكثر من حساب، واحد شخصي والآخر سياسي لا يعرف عنه أحد شيئًا، حتى الأقرباء والأصدقاء، وهو يمكن أن نسميه التفاعل الرمزي الافتراضي، كقناة خلفية أو وسيلة للتعبير عن الذات بشكل خفي، وتجلى هذا في الرموز والكلمات المستخدمة، والصور الرمزية التي تعكس الهوية الشخصية للذات، تعبيرًا عن الهوية السورية، وليس الهوية الشخصية، وبطريقة أخرى انصهار الذات الشخصية في الهوية القومية التي تعبر عن الحالة الثورية والاجتماعية للسوريين.

فالصور الرمزية- مثل: القطط بجانب زهور الياسمين- لها دلالة على ثورة دمشق، وبالإضافة إلى ذلك فإن الألوان الخضراء أو الجامع الأموي بدمشق وغيرها كانت ثورة صامتة تعبر عن الهوية السورية الشخصية.

لم تكن الصورة فقط رمزًا للثورة بل أيضًا الأسماء، فلاحظنا أنه في بداية الثورة السورية كانت للأسماء الحركية المستخدمة دلالتها الرمزية المعبرة عن الثقافة السورية، وهي مثل: ياسمين الشام، بنت دمشق، علاء الشامي، أبو أحمد الحوراني.. هذه الأسماء تعبر عن الهوية الاجتماعية للسوريين.

الأسد في آخر أيام نظامه اتضح تعاطيه المهدئات، ولكن كم من الشهداء الصحفيين، والباحثين الميدانيين، والنشطاء من السوريين الذين قتلوا لمجرد التقاطهم صورة، أو نشرهم خبرًا يفضح بطش النظام، فهؤلاء هم الأبطال الأحرار في الميدان وليس الأثير

ما كان من شروط الثورة الصامتة ليس إخفاء الذات أو الصور، بل أن تخفي ثورتك أمام أهلك وأقاربك، لاسيما إن كانوا مؤيدين للنظام! وعليك أيضًا التفاعل معهم وكأنه لا يوجد ثورة في سوريا، بل أيضًا عليك أن تجلس بعض الوقت في حسابك الأصلي متفاعلًا معهم، ثم العودة إلى الحساب الثوري للتفاعل، وأن تثبت لنظام الأسد أن الثورة مستمرة؛ وألا تقبل صداقة أي شخص، وإنما من المؤيدين للثورة من جميع أنحاء العالم، ولا سيما العالم الإسلامي، ومهمتك ليست الدردشة بل أن تفضح جرائم النظام، وتدعم الحراك الثوري.

وكان كثير من السوريين يستفيد من الخبرات العلمية والثورية والمدنية وحتى العسكرية من الأصدقاء المضافين.. وفي النهاية ألا ترسل رسائل صوتية ولا تتحدث عن ذاتك، ولا تخبر أحدًا أين تجلس وأين تعيش.

إعلان

هذه هي الثورة الصامتة.. بلا هتاف وبلا تجمعات، فقط الصورة والحراك الافتراضي والتجمعات الافتراضية هي الثورة التي كانت تنخر في عقل نظام الأسد وتجعله لا ينام، كما يحدث في الميدان، ولمَ لا؟

فالأسد في آخر أيام نظامه اتضح تعاطيه المهدئات، ولكن كم من الشهداء الصحفيين، والباحثين الميدانيين، والنشطاء من السوريين الذين قتلوا لمجرد التقاطهم صورة، أو نشرهم خبرًا يفضح بطش النظام، فهؤلاء هم الأبطال الأحرار في الميدان وليس الأثير.

في بداية الثورة، قوة النظام وبطشه كانا شديدين، كان يسقط كثير من هؤلاء في يد النظام؛ بسبب الاختراقات الأمنية، أو بعض اللجان الإلكترونية التابعة للنظام، فكنا نسمع أن أحد الثوار تواصل مع أحد الأشخاص على شبكة التواصل الاجتماعي، وتبين أنه عميل للنظام أو عميلة.

كثيرات كن يعملن في الكتائب النسائية بالجيش السوري، التي كان من مهامها الموكلة إليها الإيقاع بالنشطاء السوريين عبر ممارسة الرذيلة عن طريق الإنترنت، ومن ثم نشر فيديوهات خاصة به لابتزازه من أجل العمل في خدمة الأسد أو الفضيحة، وكان يعبر عن مثل هذه الممارسات بين الثوار بالقول: "لقد أسقطته حورية من حوريات الأسد".

ذهب بشار ونظامه، وبقيت سوريا صلبة راسخة في عقول وقلوب السوريين، وكذلك في شخصيتهم القومية

ورغم هذا لم يتوقف نشر الحقيقة في سوريا، أتذكر أن أحد الأصدقاء كان يحكي لي عن المأساة التي كان يعاني منها الناس داخل دمشق نفسها- التي كان الثوار في إدلب وباقي المحافظات يصفونها بأنها رأس النظام- من قطع الكهرباء والإنترنت، وغلاء أسعار البنزين والمازوت، وإن كانت العاصمة بعيدة عن مأساة الريف والمدن الأخرى.

ولكن الثورة السورية هي ثورة من الأطراف إلى الوسط، وبعبارة أخرى ثورة من الريف إلى المدينة (حرب الضعفاء)، هي حرب المهمشين ليس فقط من الناحية الديمغرافية الإثنية والمذهبية، بل أيضًا من الناحية الاجتماعية والاقتصادية، فالجميع عانى من بطش النظام، والعاصمة لم تسلم من سجن صيدنايا، ولم تسلم حلب من البراميل المتفجرة.

إعلان

على الرغم من هذه الأقنعة لم تكن تخفى الهوية المحلية للسوريين، كنت أتحدث مع بعض الثوار وأسأل من أي محافظة أنت؟ يقول لي الشام، أو إدلب، أو حلب، وبعضهم كان يغير اللهجة لإخفاء من أي مدينة هو؛ خوفًا من مراقبة النظام لحسابه ثم القبض عليه، لكن لم يكونوا يخفون حقيقة ثقافتهم السورية، ووقوفهم مع سوريا الثورة، وسمت السوريين الذي يتسم بالأخلاق، والمرح، واللطف.

ذهب بشار ونظامه، وبقيت سوريا صلبة راسخة في عقول وقلوب السوريين، وكذلك في شخصيتهم القومية، وتجلى هذا ليس فقط في الاستمرار بمحاولات إسقاط النظام ميدانيًّا وعسكريًّا، ولكن في ممارساتهم الثقافية التي عبروا عنها في وسائل التواصل الاجتماعي، أو في انتشارهم الثقافي في جميع أنحاء العالم، بأكلاتهم الشعبية، بأفراحهم، بأغانيهم، بنجاحهم العملي والاقتصادي، فهم أمة حية تبحث عن لمّ شتاتها في جميع دول العالم.

أظن أنه قد حان الآن أن يفرح السوريون- ونحن معهم أيضًا- بنزع ذلك القناع، لتظهر وجوههم الحقيقية التي ظلت مخبّأة لعقد من الزمن؛ خوفًا من وباء النظام، فلقاح الثوار أزال وباء النظام.

كنت أرى بعضًا من صور الثورة السورية فإن "بكرا أحلى"، ولنبتعد عن القلق من المجهول والخوف من القادم، فإن السوريين بحاجة للتعبير عن ذاتهم الحقيقية لكي يستطيعوا مواجهة المخاطر القادمة بلا أقنعة

أعلم أن ما ينتظره السوريون بعد إزاحة النظام في تأسيس نظام ومجتمع جديدين، على أنقاض حرب طويلة، وتمزق طائفي وثقافي وإثني وسياسي واقتصادي، ليس بالأمر السهل؛ فالبناء أصعب من الهدم، وخاصة مع كثرة اللاعبين الدوليين والإقليميين، بالإضافة إلى ملايين المهاجرين المقيمين في الخارج، ما بين مندمج ومذاب في مجتمعات غربية، تختلف كليًا عن الثقافة السورية الأصلية الحقيقية.

ولكن يبقى الأمل، وكما كنت أرى بعضًا من صور الثورة السورية فإن "بكرا أحلى"، ولنبتعد عن القلق من المجهول والخوف من القادم، فإن السوريين بحاجة للتعبير عن ذاتهم الحقيقية لكي يستطيعوا مواجهة المخاطر القادمة بلا أقنعة، لكن بشخصيتهم الحقيقية وأصالتها وتفتحها، لكي تعود مرة أخرى لدورها الكبير في العالمين؛ العربي والإسلامي.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان