شعار قسم مدونات

التصفح الورقي في عصر اللمس والنقر

boredom:CB2; holding:CB2; one person:CB2; teenage boy:CB3; half-length:CB2; sitting:CB3; Caucasian ethnicity:CB2; connectivity:CB2; wi-fi:CB3; watching:CB3; communications:CB2; indoors:CB2; internet:CB2; tablet PC:CB3; 13-15 years:CB2; adolescence:CB2; leisure:CB2; sofa:CB2; reading:CB1 القراءة الإلكترونية في المنزل
تحولت الورقة في عصر الناس هذا إلى شاشة رقمية تديرها الأصابع تحريكًا وتدويرًا (غيتي إيميجز)

لا تنقضي عجائب القرآن، ولا تنحصر لطائفُه؛ بل تتجلى وتتجدد مع حركة العصر، وتطوّر وسائله!

ولا يقف تمثّل القرآن وتدبره عند حدود "التفسير الحَرفي"؛ بل إن لطائفه تتجلى من خارج النص، وتحضر من وراء السياق، لتشعّ في يوميات حياتنا العادية، وتضيء تفاصيل واقعنا المعيش؛ فتنطق عليها بمصداق مَتلوّ الذِّكر المحفوظ.. ومن ذلك موضوع تصفّح المقروء، الذي زاحمت عليه ذكياتُ الهواتف والصفائح الإلكترونية بطونَ الكتب والصحائف الورقية، كما انتزعت "لوحات المفاتيح" تسطير المكتوب من أفواه الأقلام. وما شيء من عالم القراءة ألذّ في اليد ملمسًا، وأقرّ في النّفس وقْعًا، من كتاب في قرطاس يَلمسه القارئ بيديه، مصداقًا لآية سورة الأنعام، في عموم لفظها لا خصوص سببها وسياقها.

عند الحديث عن لمس الورق لا ينصرف الذهن إلا إلى اليد، لكن ذكرها يقيم في البال تلك العلاقة الحميمية بين اليد والورق في حالة "التقليب"

فسياق الآية -ومعرضها- الإنكار بعد التبيّن والمكابرة في المحسوس، واللجاجة في العناد والتمادي في التعنّت، ومن راجع مصادر التفسير، وجد أنّ الآية نزلت في نفر من مشركي قريش، خاطبوا رسول الله ﷺ فـ"قالوا: يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله، ومعه أربعة من الملائكة يشهدون عليه أنه من عند الله وأنك رسوله، فأنزل الله عز وجل: {ولو نزَّلْنا عليك كتابًا في قرطاسٍ} مكتوبًا من عندي {فلمسوه بأيديهم}، أي: عاينوه ومسوه بأيديهم، وذكر اللمس ولم يذكر المعاينة لأن اللمس أبلغ في إيقاع العلم من الرؤية، فإن السحر يجري على المرئي ولا يجري على الملموس، {لقال الَّذين كفروا إنْ هذا إلّا سِحرٌ مبينٌ} معناه: لا ينفع معهم شيء لما سبق فيهم من علمي" (تفسير البغوي).

على أن "الملموسية" هي وجه ملاحظتي ومحلّ استئناسي، ويتجلى ذلك في ثلاثية: المسطور، والورق، ولمسة اليد.. ومن تمام الفائدة الإشارة إلى أنّ التعبير باللمس، وإضافته إلى اليد، فيه نَقْل بليغ للمعنى؛ فعند الحديث عن لمس الورق لا ينصرف الذهن إلا إلى اليد، لكن ذكرها يقيم في البال تلك العلاقة الحميمية بين اليد والورق في حالة "التقليب"؛ وهذا -في سياق الآية- أبلغ من التعبير بـ "المعايَنة"، فهو أنفى للشك؛ لاشتراك حاسّتي البصر واللمس في المباشَرة.. وهو – خارج سياق الآية – يحيل إلى متعة التصفّح الورقي في ساعة المطالعة!

ولقد تحولت الورقة في عصر الناس هذا إلى شاشة رقمية، تديرها الأصابع تحريكًا وتدويرًا، وتحكّمًا في الأبعاد والمَقاسات.. فبقيت القراءة "حقيقة" في الحالتين، لكن التصفح ظل "مجازيًا" في حالة الشاشة؛ لأن القارئ فاتته لذة "تقليب الأوراق"!

ليس بمستبعد أن يمضي في تصعيده وبسط هيمنته، التي قد لا تقلّ في سطوتها و"استبداديتها" عن صدمة تحكُّم الذكاء الاصطناعي وتهديده المستطير

وهذا الاستئناس الذي استقيته من اللطيفة القرآنية في الآية آنفًا يدركه من انتقل من التصفح الورقي الصحي، إلى مقابله الإلكتروني المُجهِد، ويفهمه من قارن بين تصفّح كتاب يقلِّب القارئ "عين" أوراقه بيديه، وبين إمرار الأصابع على صفحات الكتاب ذاته من وراء شاشة! وشتّان ما بينَ الحالتين؛ متعةً ولذاذة وتمكُّنًا واسترخاء.. وذلكم فرق لا ينتبه له مدمنو "التصفح الإلكتروني"، ومستمرئو قراءة كتب الـ"PDF"!

ولْيُقس على لمس "الشاشات الذكية" النقر على "لوحات المفاتيح"، الذي يوشك أن يحيل إلى التقاعد فناني الخط اليدوي الممارسين، بعدما نافستهم الحواسب في مهنتهم؛ مؤذنة بـ"زمن رقمي" لعله لن يكتفي بنَسخ ماضي الخط اليدوي التقليدي -كما فعل -بل يهدد "تقاليده" ويطوّعها، وقد شرع في ذلك. ولعلّه -أيضًا- لن يرضى حتى يتصرّف في "اتساقيتها" ويُنزل "جماليتها" على شرط التقنية، وهذا وارد، بل قائم.. وليس بمستبعد أن يمضي في تصعيده وبسط هيمنته، التي قد لا تقلّ في سطوتها و"استبداديتها" عن صدمة تحكُّم الذكاء الاصطناعي وتهديده المستطير.

وقانا الله شرّ طوارق عصر "الحياة الذكية"، وعرّفنا خيرَها!

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان