شعار قسم مدونات

ميلاد رسول وابتعاث أمة (2)

المسجد النبوي Madinah Haram Day View 2014
في العام الأول لهجرته خرجت أربع سرايا تطارد المشركين وتبث الرعب في كفار قريش (شترستوك)

بعد أن استعرضنا في الجزء الأول من المقالة المعالم الرئيسة التي ميزت دعوة الإسلام، بقي أن نتم الكلام في ميلاد رسول وابتعاث أمة..

يقول – ﷺ -: إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودًا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها

سبل إعداد النبي – ﷺ – لأصحابه لحمل أعباء الدعوة الجديدة

سلك النبي – ﷺ – بأصحابه سبيل التربية والتزكية والتعليم والإرشاد وتطبيق تعاليم الإسلام، وحمل أعباء الدعوة والرسالة، وأفسح المجال لبروز الكفاءات، وإليك تفصيل ذلك:

  • الله هو الغاية

إن الله هو الغاية، وهو المقصود بالطاعة والعبادة، وإليه المقصد.. {قل إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أوّل المسلمين} [الأنعام:162-163]. وفي الصحيحين عن عمر – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله – ﷺ – يقول: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه".

  • أداء الفرائض واجتناب المحرمات وعدم تجاوز حدود الله

يقول – ﷺ -: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودًا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها".

أخذ المسلمون يدخلون دار الأرقم سرًا حين ازداد اضطهاد المشركين للنبي وأصحابه، ليقيموا صلاتهم، ويتعلموا القرآن ويتلقوا عن الرسول ما يوحى إليه ويتدارسه معهم ويأمرهم باستظهاره وفهمه، وفيها أسلم كبار الصحابة وأوائل المسلمين

  • سلوك سبيل التلاوة والتزكية والتعليم

قال تعالى: {هو الّذي بعث في الأمّيّين رسولًا منهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبينٍ} [الجمعة: 2]. وحضّ ربنا على قيام الليل وترتيل القرآن في قوله: {يا أيّها المزّمل قم الليل إلّا قليلًا نصفه أو انقُص منه قليلًا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلًا إنّا سنلقي عليك قولًا ثقيلًا إن ناشئة الليل هي أشدّ وطئًا وأقومُ قيلًا} [المزمل: 1-6]

  • التربية الجماعية والاجتماع على الخير

بدأ رسول الله – ﷺ – مع المسلمين فرادى، وحين صار عددهم ثلاثين اختار لهم دار الأرقم على جبل الصفا لقربها من الكعبة، لتكون مركزًا للدعوة ويجتمع فيها بالمسلمين سرًا؛ ليعلمهم القرآن الكريم وشرائع الإسلام، إذ كانت بعيدة عن أعين المشركين وتفكيرهم .

أخذ المسلمون يدخلون دار الأرقم سرًا حين ازداد اضطهاد المشركين للنبي وأصحابه، ليقيموا صلاتهم، ويتعلموا القرآن ويتلقوا عن الرسول ما يوحى إليه ويتدارسه معهم ويأمرهم باستظهاره وفهمه، وفيها أسلم كبار الصحابة وأوائل المسلمين. وعندما بلغ عددهم أربعين فردًا، خرجوا يجهرون بالدعوة إلى الله.. وكذلك كان المسجد النبوي نموذجًا للاجتماع والتربية والتزكية.

بإطلاق الطاقات كان تغيير مكان الجيش يوم بدر بمشورة الحباب بن المنذر، وكانت فكرة خندق سلمان الفارسي التي حفظت المدينة المنورة من الاقتحام، وكان كذلك تخذيل نعيم بن مسعود وأثره في معركة الأحزاب

  • البنية التنظيمية

وقد كان رسول الله – ﷺ – إذا أسلم الرجل والرجلان ممن لا شيء له ضمهما إلى من في يده سعة، فينالان من فضل طعامه، فاشتمل أفراد الدعوة في إطار المعرفة والاستيعاب والرعاية .

وفي بيعة العقبة الثانية قال النبي – ﷺ – للمبايعين: "أخرِجوا إليّ منكم اثني عشر نقيبًا يكونوا كفلاء على قومهم ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم". وحين أراد النبي – ﷺ – أن يرد سبايا ثقيف قال للأنصار: "إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم".

  • إطلاق الطاقات في تحمل أمانة الإسلام وتبليغ الدعوة

وبرز ذلك في اتخاذ أبي بكر من محل تجارته مركزًا للدعوة إلى الإسلام، فأسلم بدعوته إلى الإسلام عثمان بن عفان، وعبدالرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله. كما كان من ذلك إرسال مصعب بن عمير إلى المدينة المنورة برفقة أصحاب بيعة العقبة الأولى، وعاد في العام التالي ومعه ثلاثة وسبعون رجلًا وامرأتان.. وبإسلام أسيد بن حضير أسلم سعد بن معاذ، وبإسلام سعد بن معاذ أسلم بنو عبد الأشهل.

وبإطلاق الطاقات كان تغيير مكان الجيش يوم بدر بمشورة الحباب بن المنذر، وكانت فكرة خندق سلمان الفارسي التي حفظت المدينة المنورة من الاقتحام، وكان كذلك تخذيل نعيم بن مسعود وأثره في معركة الأحزاب.

وقد أرسى النبي – ﷺ – مبدأً هامًا حين قال لأصحابه: "إنما أنا بشر فإذا نسيت فذكروني".. قال إبراهيم النخعي: صلى النبي – ﷺ – بالناس – لا أدري زاد أو نقص – فلما سلم قيل له: يا رسول الله، أحدث في الصلاة شيء؟ قال: وما ذاك، قالوا: صليت كذا وكذا، فثنى رجليه، واستقبل القبلة، وسجد سجدتين، ثم سلم، فلما أقبل علينا بوجهه، قال: إنه لو حدث في الصلاة شيء لنبأتكم به، ولكن إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني، وإذا شك أحدكم في صلاته، فليتحرّ الصواب فليتم عليه، ثم ليسلم، ثم يسجد سجدتين. [صحيح البخاري].

عثمان بن مظعون حين رجع من الهجرة الأولى إلى الحبشة، ودخل مكة في جوار الوليد بن المغيرة، فلما رأى المشركين يؤذون المسلمين وهو آمن رد على الوليد جواره

  • استمرارية التفاعل مع المجتمع وقضاياه

حين خشي النبي – ﷺ – على نفسه قالت له خديجة: كلا، والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلّ، وتكسب المعدوم وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. فكان ذاك سمته قبل النبوة وبعدها، وكان ذلك سمت أبي بكر كذلك كما وصفه ابن الدغنة زعيم قبيلة الأحابيش في قوله: يا أبا بكر، إن مثلك لا يخرج.. إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.

وكان أصحاب النبي – ﷺ – يعيشون الحياة بكل أحداثها، ويخالطون المشركين في مجالسهم فيعرفون وينكرون، كما في واقعة عثمان بن مظعون حين رجع من الهجرة الأولى إلى الحبشة، ودخل مكة في جوار الوليد بن المغيرة، فلما رأى المشركين يؤذون المسلمين وهو آمن رد على الوليد جواره، فبينما هو في مجلس لقريش وقد وفد عليهم لبيد بن ربيعة، فقعد ينشدهم من شعره. قال لبيد "ألا كل شيء ما خلا الله باطل"، فقال عثمان بن مظعون: صدقت. وقال لبيد "وكل نعيم لا محالة زائل"، فقال عثمان: كذبت، نعيم الجنة لا يزول.

فقال لبيد: متى كان يؤذى جليسكم يا معشر قريش؟ فقام رجل منهم فلطم عثمان، فاخضرت عينه، فلامه الوليد على رد جواره، فقال: قد كنت في ذمة منيعة، فقال عثمان: إن عيني الأخرى لما أصاب أختها لفقيرة. فقال له الوليد: فعد إلى جوارك، فقال: بل أرضى بجوار الله تعالى (وقد أسلم لبيد بعد ذلك).

  • مقاومة الظلم والظالمين

في الحديث القدسي عن النبي – ﷺ – أن الله – عز وجل – يقول :"يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا". وكان نهج النبي – ﷺ – مقاومة الظلم والظالمين حتى إنه شارك في حلف الفضول، الذي تعاقد فيه المحتلفون أن يكونوا يدًا واحدة على الظالم، وقال: حلف دُعيت إليه في الجاهلية، ولو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت.

واستمر نهج النبي – ﷺ – بعد الإسلام؛ فيقول محمد بن إسحاق: حدثنا عبد الملك بن أبي سفيان الثقفي قال: قدم رجل من إراش بإبل له مكة، فابتاعها منه أبو جهل بن هشام فمطله بأثمانها، فأقبل الإراشي حتى وقف على نادي قريش، ورسول الله – ﷺ – جالس في ناحية المسجد، فقال: يا معشر قريش، من رجل يعديني على أبي الحكم بن هشام، فإني غريب وابن سبيل، وقد غلبني على حقي؟ فقال أهل المجلس: ترى ذلك الرجل؟ (وهم يهزؤون به، مشيرين إلى رسول الله – ﷺ – لما يعلمون ما بينه وبين أبي جهل من العداوة) اذهب إليه، فهو يؤديك عليه. فأقبل الإراشي حتى وقف على رسول الله – ﷺ – فذكر ذلك له، فقام معه، فلما رأوه قام معه، قالوا لرجل ممن معهم: اتبعه فانظر ماذا يصنع؟

فخرج رسول الله – ﷺ – حتى جاءه، فضرب عليه بابه، فقال: من هذا؟ قال: "محمد، فاخرج". فخرج إليه، وما في وجهه قطرة دم، وقد انتقع لونه، فقال: "أعطِ هذا الرجل حقه". فقال: لا تبرح حتى أعطيه الذي له. قال: فدخل، فخرج إليه بحقه فدفعه إليه، ثم انصرف رسول الله – ﷺ – وقال للإراشي: "الحق بشأنك". فأقبل الإراشي حتى وقف على ذلك المجلس، فقال: جزاه الله خيرًا؛ فقد أخذت الذي لي.

وأما حديث الزبيدي، فقد حدث بعضهم قال: بينما رسول الله – ﷺ – جالس في المسجد، ومعه من الصحابة، إذا رجل من زبيد يطوف على حِلق قريش حلقة بعد أخرى وهو يقول: يا معشر قريش، كيف تدخل عليكم المارة، أو يجلب إليكم جلب أو يحل (بضم الحاء، أي ينزل بساحتكم تاجر)، وأنتم تظلمون من دخل عليكم في حرمكم؟ حتى انتهى إلى رسول الله – ﷺ – في أصحابه. فقال له – ﷺ – ومن ظلمك؟ فذكر أنه قدم بثلاثة أحمال خيرة إبله – أي أحسنها – فسامه بها أبو جهل ثلث أثمانها، ثم لم يسمه بها لأجله سائم. قال: فأكسد علي سلعتي فظلمني. فقال له رسول الله – ﷺ -: وأين جمالك؟ قال: هذه هي بالحزورة.

فقام رسول الله – ﷺ – وقام أصحابه، فنظروا إلى الجمال فرأى جمالًا حسانًا، فساوم ذلك الرجل حتى ألحقه برضاه، وأخذها رسول الله – ﷺ – فباع جملين منها بالثمن، وأفضل بعيرًا باعه وأعطى أرامل بني عبدالمطلب ثمنه، وكل ذلك وأبو جهل جالس في ناحية من السوق ولم يتكلم!. ثم أقبل إليه رسول الله – ﷺ – فقال له: إياك يا عمرو أن تعود لمثل ما صنعت بهذا الرجل فترى مني ما تكره. فجعل يقول: لا أعود يا محمد.. لا أعود يا محمد. فانصرف رسول الله، ﷺ.

وعن جابر: حين عاد مهاجرة الحبشة عام الفتح إلى رسول – ﷺ – قال: ألا تخبروني بأعجب ما رأيتم بأرض الحبشة؟ فقال فتية كانوا منهم: بلى يا رسول الله.. بينما نحن يومًا جلوس إذ مرت بنا عجوز من عجائزهم، تحمل على رأسها قلة ماء، فمرت بفتى منهم، فجعل إحدى يديه بين كتفيها ثم دفعها، فخرت المرأة على ركبتيها وانكسرت قلتها. فلما قامت التفتت إليه ثم قالت: سوف تعلم يا غادر إذا وضع الله الكرسي، وجمع الله الأولين والآخرين، وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، سوف تعلم من أمري وأمرك عنده غدًا.. قال: فقال رسول الله – ﷺ -: صدقت.. كيف يقدس الله قومًا لا يؤخذ من شديدهم لضعيفهم؟

وعن أبي سعيد الخدري: جاء أعرابي إلى النبي – ﷺ – يتقاضاه دينًا كان عليه، فاشتد عليه حتى قال له: أحرِّج عليك إلا قضيتني، فانتهره أصحابه وقالوا: ويحك تدري من تكلم؟ قال: إني أطلب حقي. فقال النبي – ﷺ – هلا مع صاحب الحق كنتم. ثم أرسل إلى خولة بنت قيس فقال لها: إن كان عندك تمر فأقرضينا حتى يأتينا تمرنا فنقضيك. فقالت: نعم، بأبي أنت يا رسول الله. قال: فأقرضته فقضى الأعرابي وأطعمه. فقال: أوفيت أوفى الله لك. فقال: أولئك خيار الناس، إنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع [رواه بن ماجه].

جاء في الحديث الذي رواه زيد بن خالد الجهني أن رسول الله – ﷺ – قال: "من جهز غازيًا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازيًا في سبيل الله بخير فقد غزا" [صحيح البخاري]

  • الجهاد ذروة سنام الإسلام

جاهد رسول الله – ﷺ – بقلبه ولسانه وماله ونفسه، منذ بعثته حتى مماته..

في العام الأول لهجرته خرجت أربع سرايا تطارد المشركين، وتبث الرعب في كفار قريش الذين آذوا المسلمين وأخرجوهم من بلدهم ودورهم وصادروا أموالهم. وفي خلال تسع سنوات بلغت غزوات رسول الله سبعًا وعشرين غزوة وثلاثًا وستين سرية وأربعة عشر بعثًا.. ومات رسول الله وقد جهز جيش أسامة بن زيد للذهاب إلى أرض الروم، ومن قبل كانت غزوة مؤتة، وقبلها تبوك وكل ذلك لردع الروم.

وقد جاء في الحديث الذي رواه زيد بن خالد الجهني أن رسول الله – ﷺ – قال: "من جهز غازيًا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازيًا في سبيل الله بخير فقد غزا" [صحيح البخاري]. وعن معاذ بن جبل قال: "كنا مع رسول الله – ﷺ – في غزوة تبوك فقال لي: "إن شئت أنبأتك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه"، قال: قلت: أجل يا رسول الله. قال: "أما رأس الأمر فالإسلام، وأما عموده فالصلاة، وأما ذروة سنامه فالجهاد".

ورضي الله عن شهيد الإسلام الإمام حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، حين أسس دعوة الإخوان المسلمين على خمسة مبادئ :الله غايتنا، الرسول قدوتنا، القرآن دستورنا، الجهاد سبيلنا، الموت في سبيل الله أسمى أمانينا.

اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، واجعلنا ممن يرد حوضه ويُسقى بيده الشريفة شربة لا يظمأ بعدها أبدا.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان