ما زال يرنّ في أُذني ذلك الصوت الجبلي الذي كنت أسمعه حين كنت طفلًا، أغدو وأروح في زقاق مخيم البقعة في الأردن!. لقد كانت مكبرات الصوت عند تسجيلات قنديل (دكان مشهور كان يبيع أشرطة الكاسيت بمختلف محتوياتها) تُطرِبُ السُّوق وروَّادَه من مسجد القُدس إلى منطِقة الخليل في المخيم القديم.
كم كانت تمتعني فرقة العاشقين بذاك اللحن الفلكلوري والأداء الجبلي ثمَّ يدور في خَلدي: لماذا نتغنى ببيروت؟ وهل سنبقى نتغنى بها زمنًا؟ لن تتعجب عزيزي القارئ لهذا السؤال إذا عرفت أن الفدائيين الفلسطينيين خرجوا من بيروت قبل مولدي بعام، لكنَّهم أبقوا على بيروتي في خلدي وخاطري بحلوها ومُرِّها.
دخل الرئيس الأميركي رونالد ريغان على خط المعركة (بيروت 1982) ليعطي الفدائيين ضمانات بسلامة أهليهم إن هم خرجوا من المدينة، ففعلوا.. حينها قال المغني: "ودعناك يا بيروت وسلاحنا شارة حرية.. لا راية بيضا رفعنا يا بيروت ولا طلعنا بهامة محنية"
"علينا وعلى بيروت".. قرأت ذات مرة في مكتبة "أصدقاء الأطفال" في مخيمنا طيب الذكر (مكتبة عامة في مخيم البقعة للاجئين الفلسطينيين في الأردن) كِتابًا كان عنوانه "زلزال بيروت".. يؤرخ ذلك الكتاب للاجتياح الصهيوني لبيروت عام 1982، وما جرى فيه من ملاحم وتلاحم بين الفصائل الفلسطينية واللبنانيين دفاعًا عن المدينة التي حاصرتها عصابات سُرَّاقِ الأوطان، حيث سَمح الصهاينة لسكان المدينة بالخروج إلى ملاذاتٍ آمنة، ولم تكن كذلك، ثم منعوهم من العودة، تمامًا كما حَصل في الشَّمال الغَزِّي، (جَمل المحامل شعبنا يا بيروت.. قال المغنِّي).
ضمانات أميركا! ما أشبه اليوم بالأمس!. دخل الرئيس الأميركي رونالد ريغان على خط المعركة (بيروت 1982) ليعطي الفدائيين ضمانات بسلامة أهليهم إن هم خرجوا من المدينة، ففعلوا.. حينها قال المغني: "ودعناك يا بيروت وسلاحنا شارة حرية.. لا راية بيضا رفعنا يا بيروت ولا طلعنا بهامة محنية".
هذا صحيح، ولكن بعد أن خرجوا من بيروت سالت الدماء في صبرا وشاتيلا بتفكير وتدبير الصهاينة والأميركان، وإن لم تكن بأيديهم جزئيًا، واليوم يطرحون الأمر ذاته في غزة!. وقف إطلاق النار مؤقتًا مقابل الإفراج عن الأسرى، وضمان مخرج آمن لأبي إبراهيم السنوار مقابل الأمان لأهل غزة. ولن نلدغ من الجحر ذاته (واللي ما شاف بالغِربال يا بيروت أعمى بعيون أميركية.. القول للمغني أيضًا).
بالطيارات أول غارة يا بيروت.. لم تجرؤ عصابات لصوص الأوطان أن تدخل وجهًا لوجه في الماضي، واليوم كذلك.. كيف لا والأرض تلفظهم، وأهل الأرض ترفضهم؟ فلا حيلة لهم إلا من الجو.. فعندما بدأ القصف الهمجي على غَزَّة، لم يفرقوا بين مدنيين وعسكريين، ومواقع عسكرية ومرافق عامة.. لقد قُصفت المستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس، وقُتل المسلمون والنصارى والأطفال والنساء، بل لقد قتلوا الخيول يوم أصبحت رَكوبة الضحايا!. هو ذات الأمر الذي حصل في بيروت الأمس وبيروت اليوم.. لقد دمروا بطائراتهم وراجماتهم كل صافر نار، فلم يفرقوا بين مِلَّةٍ ونِحلَة ومذهب ومعتقد.
علاقتنا مع الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية متجذرة؛ فنحن منذ بداية الكفاح المسلح نقدم السلاح لفلسطين، فعلاقتنا معها قديمة قدم الاحتلال
- سفير روسيا في ماليزيا
لا تَفرَّقوا فقد اتفق علينا المتفرقون.. لم يحتج العالم لصاحبنا المغني كي يقول للعالم "اشهد".. لقد كان شاهد زورٍ بامتياز، لقد نهضت دول الديمقراطية وحقوق الإنسان والمرأة والحيوان، ورمتنا عن قوس واحدة. إن الدول التي انتحبت ذات زمان على المرأة التي لا تسوق السيارة لم تعبأ بنساء غزَّة اللاتي يُسحبن من تحت الأنقاض جُذاذًا دون كبيرٍ لهم، والمنظمات التي صدعتنا بحق المرأة بالدراسة في فصول مختلطة لم تكترث لنساء لبنان اللاتي جعلتهن طائرات الهمجية الصهيونية حصيدًا خامدات.
أُقسِم بمن حرَّم الدماء إنَّ دماء الفلسطينيين والسوريين واليمنيين واللبنانيين، وكل ذي كبدٍ رَطبة، ناهيك عن أن يكون مسلمًا، هي عندنا في الحُرمة سواء، فلا فرق بين دم ودم، ولكن الاتحاد والتعاضد أمام عدوٍ وحَّد العالم على حربنا لهو فرض المرحلة وواجب الوقت، وإنَّ ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا؛ فما قتل الصهاينة زيدًا ثأرًا لِعمرو، ولا دمَّروا ديارَ فلان انتقامًا لهُ مِن علاَّن (الدرب صعبة وعليها عقدنا النية يا بيروت.. يقول المغني)، فدعونا نعقد النية على الوحدة لندحر عدونا، ثم يكون لكل حادث حديث، أو فلا نظاهره على بني جلدتنا.
بين الشيعة والشيوعية.. في بداية الحرب على غزة التقيت مرَّة مع السفير الروسي، عندما كان في زيارة للجامعة التي أعمل فيها، فقلت له أنا رجل من أصول فلسطينية، وأود أن أشكركم على موقف دولتكم العظيم من الحرب على غزة، فشكرًا لكم.. بالرغم من قلة المسانِد كنتم ممن ساند.. فسره ذلك مني وقال لي: علاقتنا مع الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية متجذرة؛ فنحن منذ بداية الكفاح المسلح نقدم السلاح لفلسطين، فعلاقتنا مع الفلسطينيين قديمة قدم الاحتلال.
إنها حربُ إبادةٍ مفروضة، ومن العار أن نخوضها متفرقين، فإما أن ننهض جميعًا أو يقتلونا فرادى
- الشهيد فتحي الشقاقي
بالرغم مما قاله الرجل فإنني لم أرَ الفلسطينيين قد تحولوا إلى الشيوعية واتخذوها دينًا ومذهبًا!. وكذلك الأمر في غزَّة.. منذ 17 عامًا تدير حركة حماس القطاع، لم تفرض التشيع، ولم تبنِ الحسينيات، ولم تعتمد مذهبًا شيعيًا.. بل هم يصرحون مرارًا وتكرارًا أن كل دعم مُرحبٌ به على ألا يكون مشروطًا، وما هجرتهم من دمشق إلى الدوحة وأسبابها بخافية على أحد، فالمناضل صاحب القضية يعض على مبادئه بالنواجذ، ويطرق كل بابٍ لا يساومه على تلك المبادئ.
لقد دفعت بيروت ثمن دعمها لفلسطين في الماضي والحاضر.. إن كان هناك ما نختلف عليه مع بيروت، فليس من المروءة تصفية الحساب مع الجريح، خَذِّلوا عنهم ولا تخذلوهم، وانصروهم ولا تنصروا عليهم ولو بشطر كلمة؛ فنحن في معركتنا مع الصهاينة طرف ولسنا مؤيدين، ونحن جزء من المعركة ولسنا مناصرين.
أختم بما قال الشهيد فتحي الشقاقي: "إنها حربُ إبادةٍ مفروضة، ومن العار أن نخوضها متفرقين، فإما أن ننهض جميعًا أو يقتلونا فرادى".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.