إنّ الإنسان منذ قديم الزمان يميل إلى النزعة الاجتماعية والانصهار في المجتمع الذي ترعرع فيه، فبعد أن يولد على الفطرة تأتي المرحلة التي تلي ذلك، وهي اكتساب عادات وتقاليد ذلك المجتمع، ويمكن القول إنها مرحلة إدماج الفرد في هذا الأخير؛ ليصبح جزءًا منه، فيخدمه بما يتوافق مع نزعته، التي تكون مسيطرة على الفرد حينئذ.
يجب العلم أن هنالك خطًّا فاصلًا بين الطابع البدائي للفرد وبين مرحلة بناء شخصية سوية تساهم في تطور المجتمع، ولكي نبحث في تطور المجتمع علينا أن نبحث أولًا ونسأل عن العوامل التي تساهم في تطور وبناء الفرد.
إذا ما أسقطنا الجانب الروحي في الجانب المادي، فسوف نزيل كل المشتتات والمعيقات التي قد تعيق الفرد عن بلوغ مهمته الدنيوية والتفاني في إنجازها
نقول: للفرد جانبان:
جانب غرائزي طبيعي، وجانب ثقافي يتشكّل مع الوقت في وسط ذلك المجتمع، فالأول يولد به الإنسان فطريًّا، أمّا الثاني فهو نتاج المجتمع والبيئة بصفة عامة، فالمجتمع إذًا هو المساهم الأول في تكوين الفرد، الذي يعود عليه إمّا بالنفع أو باللامبالاة؛ أي- بمعنى آخر- الكرة في البداية تكون بحوزة المجتمع الذي يكوّن أفراده، فكما يمكنه أن يَكسبهم لصالحه، فيستند إليهم في المواقف والشدائد، يمكنه كذلك أن يودعهم في دوامة الضياع، لدرجة أن الفرد يتحول إلى كومة من العقد النفسية.
أهمية الهدف الأسمى!
يجب العلم – يقينًا – أن الهدف الأسمى لا نعني به تحقيق جلّ الرغبات الحسّية، أو "اللّذة"- كما تسمى-، بل هو هدف أبعد من ذلك بكثير، إنّه هدف ذو شقّ روحي وعقلي، يجعلنا نسعى نحو غايات إنسانية وأخلاقية تنير الدرب، فإذا ما تكلمنا عن الهدف الأسمى بسفاهة فسوف نضعه في إطار الشهوات واللّذة، التي بمجرد أن تنتهي تعاود ترميم نفسها لتغري حواسّنا، فتسبح فيها هذه الأخيرة مرارًا وتكرارًا إلى أن يأتي موعد الغرق النهائي؛ لتصبح الروح أسيرة القاع.
فالهدف الأسمى هو هدف يتّصل مباشرة بجانبين يحكمان حياة الإنسان، ألا وهما الجانب الروحي الميتافيزيقي والجانب المادي الدنيوي، فمن المهم جدًّا أن يعيَ الفرد أهمية هذا الأمر، فحين يجعل القيمة الروحية نصب عينيه فسوف يرتقي أخلاقيًا.
ونقصد بالقيمة الروحية هنا القيمة الروحية الخالصة، لا تلك المحملة بالخطابات السطحية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، بل هي ذلك العنصر الصافي الذي يُربّي الفرد ويهذبه ويحثّه على الطريق الصحيح.
وهكذا، إذا ما أسقطنا الجانب الروحي في الجانب المادي، فسوف نزيل كل المشتتات والمعيقات التي قد تعيق الفرد عن بلوغ مهمته الدنيوية والتفاني في إنجازها، في هذه الحالة يكون بصدد تحقيق هدفه؛ لأن القيمة الروحية تضرب بجذورها في القيمة المادية.
ويجب العلم أن عدم وجود هدف أسمى في حياة الفرد يجعل هذا الأخير عالقًا في ملذّاته، كطفل صغير ينجرّ وراء حواسّه بعدما استهوته.
مالك بن نبي
أبدع المفكر الجزائري مالك بن نبي (رحمه الله) في تلخيص نظرية عالم النفس السويسري "كارل غوستاف يونغ"، وذلك في مؤَلفه "ميلاد مجتمع"، حيث قال: "يجب التمييز بين جانبين من الفرد؛ القناع (la persona)، وما وراء القناع وأطلق عليه كلمة الظل (l’ombre)، ويقصد بالقناع الجانب المتجه من ناحية المجتمع، ويقصد بالظل الجانب المتجه نحو الطبيعة والغريزة؛ أي نحو ما هو حيويّ".
لو أمعنّا القراءة في هذه الفقرة فسنستقي الكثير من العلم، الذي يجعلنا نفهم كيف تكون سلسلة التغيير الفعلية، التي تبدأ من الفرد صعودًا إلى المجتمع.
إن القناع – حسب شرح مالك بن نبي – هو الحاجز الذي يفصل بين العالم الداخلي للفرد وعالمه الخارجي، فالعالم الداخلي الذي يتمثل في الظل هو الطاقة الحيوية، حسب ما أشار إليه، أمّا العالم الخارجي أو عالم ما بعد القناع، فهو المجتمع برمّته، وهنا يطرح سائل سؤاله: ما أهمية وجود القناع الفاصل بينهما؟
قبل أن نلوم الأفراد الآخرين في عدم القيام بواجباتهم ومهامهم، علينا أن نسأل أنفسنا أولًا: هل قمنا نحن بواجباتنا، والتزمنا بمهامنا تجاه أنفسنا، وتجاه المجتمع بصفة عامة؟
القناع (la persona)
يمكن وصف القناع على أنه المنظم والموجه للطاقة الحيوية المتواجدة وراءه والمتمثلة في الظل، ولكي يكون هذا القناع فعالًا يجب عليه أن يكون متشبعًا بالمبادئ والقيم وأن يكون صاحبه ذا رواسخ فكرية سليمة تمكنه من مجابهة الواقع.
إن لمهمة القناع أهمية كبيرة في تنظيم الطاقة الحيوية للفرد، لتخرج على شكل فِكَر جديدة وفن أنيق وإبداع يفوق التصورات. وإذا انفلتت هذه الطاقة الحيوية وسقط القناع، فستخرج تلك الطاقة بصورة منحرفة وهمجية كثور هائج ثائر يدهس ويهشم كل مجسم أمامه، فيصبح صاحبها ضالًا لا يبصر الطريق فيضيع بين الأهواء.
و(Persona) تعني القناع الذي كان يضعه الممثل اللاتيني في المسرح الروماني ليحاكي الشخصية التي يريد تمثيل دورها.
أهمية التلقين والتنشئة على الأسلوب الصحيح
إن التلقين هو العملية التقليدية التي يتلقى بها المُتعلم مجموعة من المعلومات من معلمه أو مدرّسه، وتكمن أهمية التلقين في نقل المعلومات والمعارف وتعزيز الهوية الثقافية.
لكنْ وجب العلم أن التلقين إذا افتقر إلى دعامته الأساسية فلن يكون تأثيره فعالًا على الأفراد، بل سيصبح ديكورًا خارجيًا هشًا مفتقرًا إلى صلابته، ليتحول إلى ممارسة روتينية يمارسها أصحابها الذين فقدوا النّية في بعث التغيير.
فالدّعامة الأساسية للتلقين هي التنشئة على الأسلوب الصحيح، فهذه الخطوة تعزز التلقين بصورة مباشرة، إذ عندما ننشئ الأجيال على الأسلوب الصحيح والقويم عن طريق زرع القيم الروحية والقيم الهوياتية، وزرع رواسخ فكرية متينة وسليمة، سيلتزم الأفراد بالمعلومات التي سيتعرضون إليها جراء التلقين.
وهذا الأخير سيمارسه أفراد واعون وعقلانيون، لهم نية بعث التغيير الحقيقي في الأجيال الصاعدة، عن طريق زرع روح الإبداع وحب الاستكشاف واتباع الشغف واستغلال المواهب..، هكذا سنكون قد زودنا التلقين بعناصر جديدة ومفيدة، ومغايرة للعناصر التقليدية التي قد لا تساهم في زرع الأسس القويمة والحقيقية، لإنشاء الفرد الذي سيساهم في بناء مجتمع سليم متماسك.
وأخيرًا، نستنتج أنّنا إذا ما أردنا أن نركب قطار التحضّر فما علينا فعله هو إصلاح الفرد كخطوة أولية في سُلم التغيير، وذلك بتهيئة الفضاء المناسب له عن طريق التربية الصحيحة والتوعية، التي تساهم في تغذية الجانب الثقافي للفرد في وسط المجتمع؛ فتتجذر روح الانتماء في هذا الفرد، فيمارس مهمته التي أوكلت إليه، ويتفانى في إنجازها بروح من المسؤولية ويقينية في التغيير، فيدعو الأفراد الآخرين للاقتداء به.
وقبل أن نلوم الأفراد الآخرين في عدم القيام بواجباتهم ومهامهم، علينا أن نسأل أنفسنا أولًا: هل قمنا نحن بواجباتنا، والتزمنا بمهامنا تجاه أنفسنا، وتجاه المجتمع بصفة عامة؟
وهنا أستذكر قوله تعالى: {إنّ الله لا يغيّر ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم}.. صدق الله العظيم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.