هي القريبة من قلب شاعر ومن عين عاشق ومن كف حرفي وريشة فنان، وطفل يبيع أطواق الياسمين بالضحكة المكابرة للمارة المنهكين من أثر الحروب ونزوات القادة العسكريين، هي البعيدة عن مكتب سياسي محاصص، ومضارب جهوي مقيت و"مربوعة" قبلي غادر، هي قصر زهور حاكم عادل..
هل هناك أكثر شماتة من أن يأخذ القاتل العزاء في قتيله قبل أن يواريه ذووه الثرى حتى تحت جناح إعادة إعمار، كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء؟!
هي القريبة لـ"فزعة الخوت"، ودموع المختلين بضمائرهم، المتسمرين خلف الشاشات بلا قوة أو حول، هي البعيدة عن كشوفات المركزي وحساباته المعقدة، وصفقاته وخلافاته الخفية منها والمعلنة، بل وعن مصالح رجل العدالة المنمقة الأبيض أيضًا، حين صنف كارثة القرن في كل تاريخ القارة شأنًا محليًا لا يستدعي كرم تدخله، فلم تتجاوز الكارثة ما يحظى به ترند عابر على منصات التواصل وما يحدثه من تأثر وتأثير بإعلام كلاسيكي لا يرى أبعد من أنف ممول مشبوه، أو محرر مغيب أو معدّ انتقائي.
فكان علينا أن نتأكد أن هناك دائمًا روايتين لأيِّ حدث: رواية صادقة، ورواية الحكومة، فكيف بحكومتين، تعجزان أو تُحجمان بعد أشهر من الكارثة عن إطلاعنا على عددِ قتلانا، ناهيك عن جُثثِهم المتفسخةِ تحت تراب الفساد والإهمال والخذلان، وعلى مرأى من العالم؟!
حكومات ومجالس ولجان طوارئ وأزمة صورية تركتنا للظن الذي لا يغني من الحق شيئًا، نتسول عدد قتلانا وجرحانا ومفقودينا من ويكيبيديا وغوغل، ومن المحطات المغيّبة، ومن وكالات الهواة على السوشيال ميديا، ونكذب ما تراه عيوننا حين دُمر أكثر من رُبْع الزاهرة، وقضى أكثرُ من ثُمنِ ساكنيها، وفُقد ضعفهم مرتين أو ثلاثًا، في ليلة المكاشفة الكبرى مع أعداء اليوم والأمس والغد المجهول.
لكنّ حكومات ائتمنّاها على موتانا بعد أن فرّطت فيهم أحياءً، فكّرت وقدرت، فمشت في جنازة أربعةِ آلافٍ منهم، وأعلنتْ ثلاثةَ أضعافهِم من الشهداءِ غيلانًا، تهدّد من عاش من الأهالي بالنزوح المرّ بعد كلِ ما حدث.. وإن لم يكن لجرح بميت إيلام، فهي القديمة المتجددة الجديدة الخالدة، هي الكبيرة لرفات صحابة وتابعين وأولياء وشلال ماء، وجنة متشابهة وغير متشابهة قطوفها، لكن "سلّيوها" الحائم لم ينتظر المؤولين لحلم، وصيّره السيل حقيقة شاحبة لا تقبل التفاؤل، فأي أضغاث تلك التي تطعم العصافير الحائمة أسماك البحر؟
ليس أسوأ من كوراث الطبيعة سوى كارثة سلطات تنفيذية متناحرة، تتناوب التقاعس والفشل والخذلان، وتتخذ لأشهر طوال من سرادق العزاء الكبير حلبة لتصفية حساباتها الباطلة شكلًا ومضمونًا
هي الصغيرة لمقاول أجنبي يُحمل إليها على ظهر سمسار محلي يلهث، وإن لم يُحمل عليه، ويكيل التاريخ والحاضر والمستقبل على عجل في أكياس إسمنت مستوردة، فكيف ثم كيف لمن لم يسع العظام عدًا بإحيائها وهي رميم؟ وهل أكثر شماتة من أن يأخذ القاتل العزاء في قتيله قبل أن يواريه ذووه الثرى حتى تحت جناح إعادة إعمار، كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء؟!
هي حكاية مدينة ومدينة حكايات بين دفتي كتاب، ظن كاتبه العاشق أنه احتفاء فلم يصدق ولم نصدق أنها كانت مرثية الخارجين مرة أخرى من الأندلس، تلك التي "أشعت على البعيد البعيد، ومات من فيها احتراقًا واختناقًا"، لا لشيء فقط لأنه لا بد للجمال أن يدفع ضريبة الجمال في عالم القبح اللامتناهي، فهي أندلس الصدفة في "حقول الرماد" والبؤس المزمن والحظ العاثر لسليلة ماء تنكر لها الماء، ونسيتها الجغرافيا أو نبذتها في مرمى حجر عطاش لئام، فللطبيعة كوارثها وللكوارث طبيعتها بآثارها، التي تؤكد التجربة أنها مهما عظمت تخف وتنحسر بمرور الزمن، وتشفى جراحات ضحاياها وتندمل بمضي الوقت، إلا إذا كان الوقت وقت ضباع فرقتها السياسة لتجمعها قروح ودماء لا وليّ لها.
فليس أسوأ من كوارث الطبيعة سوى كارثة سلطات تنفيذية متناحرة، تتناوب التقاعس والفشل والخذلان، وتتخذ لأشهر طوال من سرادق العزاء الكبير حلبةً لتصفية حساباتها الباطلة شكلًا ومضمونًا، ومن خلفها مجالس تشريعية كأنما خلقت لتشرع للفساد وتشرعنه حين أطل رأس أقربها مسافة! محوّلًا ما يشبه المساءلة القانونية إلى عظة عن القضاء والقدر، موبّخًا المدينة الشقية على الدوام كمن يلوم الضحية على دموعها، محمّلًا المحاصَرة بين الجبل والبحر بسدودها المتهالكة وخدماتها المنعدمة وِزرَ التهامها من أمطار شتاء الجبل الأخضر الطويل القاسي في ليلة واحدة وبمفردها.
الليبيون في درنة وقورينا وبنغازي ولبدة وصبراتة وطرابلس وقرزة وجرمة وغدامس ويفرن وأكاكوس، وحتى واو الناموس البعيدة عن كلّ شيء، أبدًا لا يبكون حجرًا وبشرًا وزرعًا وضرعًا، بقدر ما يبكون وطنًا نصفه في ذاكرتهم، وشطره يتهاوى أمام أعينهم
هي درنة التي بكاها نصف الليبيين، ووقع نصفهم الآخر تحت وقع الصدمة حتى ظنّوا وظنّ الناس أنّ ذهولهم صبر وتجلّد.. درنة التي ستُبكى إلى آخر الزمان هي محض عشرة هكتارات أو أقل، قذفها الماء للماء في ساعتين ونصف الساعة، درنة التي تُبكى وستُبكى، ربّما كانت هي سوق الظلام أو المغار أو الجبيلة، أو هي مقبرة الصحابة، أو ربّما كانت شارع إبراهيم الأسطى عمر، أو البياصة الحمرا التي سبقت الجرافات المارقة إليها "دانيال"، فحبسنا دموعنا لسنوات حتى انهمرت الآن بمؤازرة الإعصار الذي لا يجيد تزوير الحقائق، أو ربّما كانت مسجد العتيق، أو جامع الدرقاوية أو سوق الخرازين، أو وكالة الطرابلسي، أو حتى شوارع اليهود الشاهدة على بعض مما مرّ على درنة من ديانات وحضارات حتى سُمّيت يومًا أندلسًا.
كلّ ما سبق قد يكون درنة التي يبكي وسيبكي عليها الليبيون، لكنها أبدًا لن تكون درنة التي يتحدث الساسة عن إعادة إعمارها، فما سيعمّر الفاسدون في تلك البقعة يمكن أن يكون أيّ شيء آخر كذلك، لكنه أبدًا لن يكون درنة، ولو أمطرها ألف "دانيال"، وشهدت ألف حرب وحرب وإعمار، فدرنة تحديدًا خُلقت لتكون درنة ولا شيء آخر!
الليبيون في درنة وقورينا وبنغازي ولبدة وصبراتة وطرابلس وقرزة وجرمة وغدامس ويفرن وأكاكوس، وحتى واو الناموس البعيدة عن كلّ شيء، أبدًا لا يبكون حجرًا وبشرًا وزرعًا وضرعًا، بقدر ما يبكون وطنًا نصفه في ذاكرتهم، وشطره يتهاوى أمام أعينهم، وفوق عنقه تتعاقب أقدام المشوّهين والعابرين لحدوده وسدوده إلى دمار عاجل ومسخ آجل على مقاس مشاريع البقاء، ولو كبّدهم مدافن مترامية الوجع على أنقاض بقايا ذاكرة منهكة حدّ الذهول، من سبتمبر/ أيلول أسود في 1969، إلى سبتمبر/ أيلول أكثر سوادًا في 2023.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.