نتابع ما بدأناه في مقالتنا السابقة تحت هذا العنوان، ونستعرض هنا مسألتين..
- ثقافة الحرية المقيدة
إن أبسط تعريف للحرية هو قدرة الشخص العاقل أو الفاعل الاجتماعي على أن يقوم بفعل ما يريد، والتعبير عما يريد، وتحقيق ما يريد. ولكنّ هناك تساؤلًا: أحقًا ما نريد تحقيقه والتعبير عنه نابع من ذاتنا وإرادتها الحرة، أم نحن موجَّهون للقيام بأفعال محددة؟!
هذا السؤال من الصعب الإجابة عنه في مقالة، والشرح يطول؛ فهو جوهر نظرية الفعل الإنساني.. ولكن ما أؤكد عليه هو أن الإجابة لا بد أن تراعي التفريق بين ما أفعله، وله قيمة حقيقية وإضافة لذاتي، ويؤدي إلى تحقيق إنتاج اجتماعي، وبين ما هو دون ذلك، وليس إلا مجرد منفعة لا قيمة لها، ويمكن الاستغناء عنها.
نحن أمام حقيقة وجود كمٍّ هائل من الاختيارات المتشابهة، التي جعلتنا ننسى فعليًا ما الذي نرغب به.. حقيقة أفقدتنا حِسَّنا في الوعي بذاتنا ونقد أنفسنا، ورسّخت الارتباط بثقافة الاستهلاك والتجميع!. فهذه الاختيارات صنعها رجال الأعمال وأصحاب الشركات، لتحقيق الربح المادي لهم، فالحرية هنا مصطنعة وليست حقيقية، ولا تعبّر عن الوعي الذاتي لأنفسنا.
مع اندماج المال السياسي والشركات العابرة للقارات أصبحت هذه الحريات مقيدة من قبل رجال الأعمال ذوي التوجهات السياسية لخدمة الدول الغربية وأجندات سياسية، بالسلطوية على وسائل التواصل الاجتماعي من خلال حجب الحقائق وتصنيفها بأنها تحث على العنف
إذا اعتبرنا أننا أصبحنا موجَّهين من خلال ما يقدمه لنا رجال الأعمال وشركات الدعاية لتحقيق الربح، فهذا ينطبق أيضًا على التوجيه الذي تستخدمه الدول الغربية في المعلومات والأخبار، التي تقدمها لنا عبر وسائلها الإعلامية الفضائية والإلكترونية، فجميع المعلومات التي تقدمها وسائل الإعلام موجهة لتغيير فكرنا ورؤيتنا للحقيقة، وكذلك تقييدها.
فنحن لا نعرف – على سبيل المثال – حقيقة ما جرى في العراق أو أفغانستان، أو حتى في أي بلد من بلدان العالم، إلا من خلال وسائل الإعلام الموجهة، وهو ما أطلق عليه عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديه: "الواقع المفرط".. وأبسط مثال على هذا هو ما فعلته الدول الغربية بحجبها للقنوات الروسية والإعلام الروسي للتوجيه، وأيضًا لا يمكن إغفال حقيقة الهزيمة الأميركية في أفغانستان، على الرغم من أنها منتصرة في الإعلام الدولي الموجّه.
ولكن الإعلام الإلكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي أظهرت نوعًا من الثورة الإعلامية، حيث أصبح الإنسان قادرًا على نقل الحدث وصناعته والمشاركة فيه؛ فمن خلال الهاتف يتم تصوير كافة الأحداث في العالم في لحظتِها قبل وكالات الأنباء، وإظهار الحقيقة، ويكون من الصعب إخفاؤها أو حجبها، وهذا يعد خاصية جديدة من خصائص الإعلام الإلكتروني التفاعلي.
ولكنْ مع اندماج المال السياسي والشركات العابرة للقارات، أصبحت هذه الحريات مقيدة من قبل رجال الأعمال ذوي التوجهات السياسية لخدمة الدول الغربية وأجندات سياسية، بالسلطوية على وسائل التواصل الاجتماعي من خلال حجب الحقائق وتصنيفها بأنها تحث على العنف.
وباعتبار وسائل التواصل الاجتماعي نوعًا من الصحافة الإلكترونية فإنها تمنع كتابة بعض الكلمات مثل "القضية الفلسطينية" أو "إسرائيل"، وتوجه إرادتنا نحو ما ترغب به الدول الغربية؛ فإما أن تقف مع سياسة دول معينة أو يتم حجب جميع منشوراتك وإيقاف حسابك الشخصي لـ"دعمك للإرهاب" أو "معاداتك للسامية" أو الحرية الجنسية.
وتبدأ وسائل التواصل الاجتماعي بإعادة إنتاج المصطلحات والرموز والشعارات، وتزييف التاريخ لشعوب العالم طبقًا للثقافة الخاصة المتسلطة، فعلى سبيل المثال قد يسمح لك بكتابة كلمة "إسرائيل" في إطار الدولة والاعتراف بها، وفي سياقها التاريخي المزيف، وليس في الواقع الحقيقي الملموس، وكذلك كلمة "إرهاب" بدلًا من "حماس"، أو غيرها من الكلمات التي تتعارض مع السياسة الغربية.
التطوير بمفهوم هذه الصفوة المؤدلجة هو التبرير للسياسات الغربية والترويج لها، باعتباره التنوير الحقيقي والحداثة الحقيقية، فالتمثل الثقافي الذي يصيب هذه الصفوة يجعلها تنشر الثقافة الغربية في بلادها
صناعة الصفوة المعولمة
إنّ المفهوم الغربي لمعنى التحديث والتقدّم هو تحويل الأشياء – وكذلك الإنسان – إلى صناعة وتقنيات يمكن الاستفادة منها بشكل يخدم المصالح الكبرى للدول الغربية، وكذلك الشركات، ولكن ما نحن بصدد الحديث عنه هو صناعة الصفوة المعولمة، أي الأشخاص الذين يحملون الأيديولوجيا الغربية وأفكارها المثالية، دون الأخذ بالاعتبار الأهداف الحقيقية التي تقع خلف هذه الأفكار المثالية، مثل: الليبرالية والحداثية، ورفض التراث الثقافي، باعتباره ثقافة قديمة أو متخلّفة.
تلك النظرة الدونية للثقافة الذاتية، وتعظيم ثقافة القوي، ليست شيئًا جديدًا، بل هي من طباع الشعوب. وقد قال عالم الاجتماع ابن خلدون: "إن المغلوب مولع أبدًا باقتداء الغالب، في شعاره وزيّه ونحلته". ولكن الواقع الحالي يختلف عما كان يحدث في العصور القديمة؛ فالدول الغربية أصبحت تستخدم وسيلة من وسائل القوة الناعمة، وهي التي يطلق عليها "دبلوماسية التعليم".
فالهدف الظاهري للتعليم في الغرب كمركز هو أن تنتفع الدول الأقل حظًا من فرص التعليم الجيدة، لتعود عليها بالنفع والتطوير على بلدها، ولكن الهدف الحقيقي من التعليم الغربي والترويج له وتوفير المنح الدراسية، أصبح لا يعود كثيرًا بالفائدة على الأمة إذا كانت تمتلك الرغبة الحقيقية في التطوير والتقدم؛ فهي تجد نفسها أمام صفوة متغربة لا ترغب في التغيير وتطوير البلاد نحو الأفضل، بل ترغب في تغيير الثقافة الكلية لبلادها لتكون ثقافة غربية أوروبيّة.
فالتطوير بمفهوم هذه الصفوة المؤدلجة هو التبرير للسياسات الغربية والترويج لها، باعتباره التنوير الحقيقي والحداثة الحقيقية، فالتمثل الثقافي الذي يصيب هذه الصفوة يجعلها تنشر الثقافة الغربية في بلادها، وتعلي من الثقافة الليبرالية والعلمانية، وتطالب بتجديد التراث وتناوله بمنهجية علمية غربية مستشرقة، دون الأخذ في الاعتبار أنه انسلاخ عن الهوية الثقافية، وهذا يعني ضياع الشعوب وتفككها؛ لأننا الآن لسنا في عصر الثقافة الواحدة، أو النخبة الواحدة، فنحن في عصر التنوع الثقافي وانتشار الحركات الثقافية، سواء بشكلها الإثني أو حتى الهُوية الجنسية، فكثيرًا ما رأينا في بلادنا العربية أن مناداة بعض الصفوة السياسية بالحرية والإيمان بالتنوع الثقافي قد أدّت إلى فتح باب التقسيم والانفصال، سواء كان هذا عن قصد أو غير قصد.
لا وجود لدولة ستعطي معلومة بالمجان، فسرّية المعلومات تتصارع عليها الدول، ويمكننا ببساطة أن نجد سياسة سرقة المعلومات وصناعة التقليد التي تقوم بها الصين
ليس المقصد من التّعليم في الخارج هو التعولم أو التماهي مع الثقافة الغربية، أو إثبات كون هذه الفئة أكثر ولاءً للأفكار والسياسات الغربية، على الرغم من اعتراض كثير من شعوب الدول الغربية على سياسات بلادها، وقد وجدنا هذا في رفض كثيرٍ من الشعوب الغربية للسياسة الأميركية في أفغانستان والعراق وفلسطين.. ولقد لاحظنا صفوة عربيّة وإسلامية تتحدث بلسان السياسات الغربية، وتبرّر لها تحت شعار "ضريبة التحول الديمقراطي" في العراق مثلًا، أو دعوى حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها في فلسطين.
الشعوب العربية والإسلامية والمستضعفة تريد المعلومات، تريد ما يحقق لها حقوقها الطبيعية، وعلى الأقلّ الحق في الحياة، فلقد أظهرت جائحة كورونا – على سبيل المثال – عدم قدرة الدول الإسلامية على صناعة جهاز تنفس صناعي لتنقذ حياة شعوبها، على الرغم من المنح الدراسية في الخارج، والبعثات إلى الدول الغربية في كافة المجالات.
نحن بحاجة إلى المزيد من المعلومات، ولسنا بحاجة إلى الفرض الثقافي الغربي، فالمجتمعات الغربية تعاني من أفكارها ومن الحركات الثقافية، حتى إنها دخلت في مرحلة الانحطاط الغربي.
بنظرة واقعية، يمكننا أن نقول إنه لا وجود لدولة ستعطي معلومة بالمجان، فسرّية المعلومات تتصارع عليها الدول، ويمكننا ببساطة أن نجد سياسة سرقة المعلومات وصناعة التقليد التي تقوم بها الصين على سبيل المثال من الولايات المتحدة، وكذلك خوف الولايات المتحدة من أن تقع المقاتله "إف- 35" في يد الروس أو الصين، وغيرهما، وهذا ينطبق على الصفوة المتعلمة في الخارج، ففيها من يريد أن يكون في سرب التماهي الغربي دون تحقيق الفائدة الحقيقية للأمة، ومن يحاول ليفعل شيئًا، وكثيرٌ من هؤلاء يُقتل أو يعتقل لأنه أراد نقل المعلومات ( know how)، وأراد أن يخرج عن القطيع.
على الرغم مما تواجهه هذه الشركات أو المؤسسات أو حتى الأفراد، من تضييق واعتقال وليبرالية سلطوية قمعية، فإنها تحاول تأسيس مجتمع معلومات أكثر استقلالية وحرية، ودون طبقية ومركزية في يد الدول الغربية
الخاتمة
الدول التي ترغب أن تحصل على المزيد من فرص النمو والتقدم عليها أن تكافح من أجل الحصول على المعلومات، وأن تقدم التضحية للحصول عليها، ولهذا تقوم كثير من الدول والحركات الدولية، وكذلك الشركات بمنع مركزية المعلومات في يد دول محددة أو منظمات محددة، لإتاحة المعلومات والحفاظ على خصوصية البيانات، وبما فيها مركزية المال.
وعلى الرغم مما تواجهه هذه الشركات أو المؤسسات أو حتى الأفراد، من تضييق واعتقال وليبرالية سلطوية قمعية، فإنها تحاول تأسيس مجتمع معلومات أكثر استقلالية وحرية، ودون طبقية ومركزية في يد الدول الغربية، وإن كان كثير منها يعمل بشكل سري، مثل: ويكيليكس وإدوارد سنودن، وحتى بافيل دوروف مؤسس تليغرام، ويمكن أن نطلق على هذه الطبقة "المعلوماتية الجديدة" أو "ثوار الحرية المعلوماتية"، فأغلب هؤلاء الذين تراهم دولهم خونة أو منحرفين، هم بالأساس يكشفون حقيقة الثقافة الغربية المركزية وليبراليتها السلطوية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.