يعدّ مجتمع المعلومات والمعرفة آخر أنماط المجتمعات التي صنفها علماء الاجتماع. ويتسم هذا المجتمع بالكم الهائل من المعلومات التي يتم إنتاجها، مقارنةً بما كانت عليه المجتمعات السابقة الزراعية ومجتمعات الصيد؛ فالتقدم التقني والعلمي يحدث بشكل سريع، إذ لا تكاد تمرّ عدة سنوات إلا ويكون هناك اكتشاف أو اختراع جديد في كافة مجالات الطب، والطاقة، والفضاء.. إلخ.
ويتميز هذا المجتمع بعدة خصائص، مثل: سرعة المواصلات، والاتصالات، واللاتزامنية ثنائية التفاعل بين الزمان والمكان في الإعلام وصناعته، بالإضافة إلى سهولة نقل المعلومة.. ويعد هذا جانبًا إيجابيًّا للتقدم التقني؛ ولكن هذه الإيجابيات أظهرت نوع التفاعلات الكامنة المحركة لها، متمثلة في التنافس، والتسابق، والصراع؛ فالصراع الحقيقي لايكمن فيمن يشتري أولًا بل فيمن يحصل على المعلومة أولًا، ومن يُسمح له بإنتاج المعلومات، ومن ثَم تحويلها إلى تطبيقات تكنولوجية؛ فالمعرفة والمعلومات هي القوة، وهي جوهر الصراع.
قيمة الإنسان الحقيقية من المنظور الغربي تكمن في تخلّيه عن ثقافته الأم وتماهيه مع الثقافة الغربية المادية، وذلك عبر شراء منتجاتها، والترويج لثقافتها
المعلوماتية والثقافة
تعد المعلوماتية والمعرفة – كما أسلفنا – مصدر القوة في المجتمعات المعاصرة؛ فمقياس الحكم على المجتمعات، بتخلّفها أو تقدّمها، هو مقدار ما تملكه من معلومات، وقدرتها على إنتاجها.
القوة لها تعريفات عديدة؛ منها تعريف علم الاجتماع بأنها قدرة التأثير على الآخرين، والتغيير في سلوكهم ومعتقداتهم، من خلال السيطرة على وسائل الإنتاج واحتياجاتهم. وهناك تعريف آخر للقوّة في العلاقات الدولية، وهو بمعنى استخدام العنف المادي والرمزي من أجل السيطرة والتحكم في سلوك الدول، ومن ثَم الحصول على الموارد.. وبناء على هذه التعريفات، تتحول المعلومات والتقنية إلى قوة، ثم إلى سلعة.
يتجلى الصراع على امتلاك المعلومات في التنافس بين الولايات المتحدة والصين على حيازة الرقائق الإلكترونية الداخلة في كافة الصناعات التكنولوجية الحديثة؛ وهذا الصراع تنتج عنه اللامساواة بين الدول الغنية المتقدمة التي تمتلك التقنية، وبين الدول الفقيرة والنامية التي لا تمتلكها، والتي يُفرض عليها دوليًا امتلاك نوع معين من التكنولوجيا والتقنيات، هي أقل في إمكاناتها مما لدى الدول الغنية، حتى تظل مرتبطة بالدول الغربية، وقابعة تحت سيطرتها، فتقوم باستغلالها لتنفيذ رغباتها التي قد لاتتوافق مع ثقافتها ومعتقداتها.
ولكن ثقافة الاستغلال والتسليع التي تتبعها الشركات والدول الغربية تجاه شعوب دول العالم، وخاصة الدول النامية تأتي من خلال وسائل ناعمة وقيم سياسية أخلاقية، مثل: الحرية والديمقراطية والحداثة. وتتجلى سياسة التسليع في شراء منتجات للرفاهية والاستهلاك أكثر من السلع التكنولوجيا الإستراتيجية الهامة، مثل: اقتناء الهواتف، والسيارات، والملابس؛ وأما سياسة الاستغلال، فهي تتمثل في المنتجات قصيرة العمر بدلًا من الصناعات المعمرة؛ فكل عام يجب تغيير الهاتف؛ لأن العمر الافتراضي له قصير، ولا يعاد استعماله، علاوة على تحكّم الشركات أيضًا في العمر الافتراضي للهواتف لزيادة المبيعات.
فالقيم الشعبيّة الخاصة بالثقافة المادية بعد أن كانت تعتبر أنه كلما زاد قدم الأشياء زادت جودتها، تحوّلت إلى اعتبار الأحدث هو الأفضل؛ لأن القديم لم يعد موجودًا، ثم إن الحديث يستعمل مرّة واحدة.. قيمة الإنسان الحقيقية من المنظور الغربي تكمن في تخلّيه عن ثقافته الأمّ وتماهيه مع الثقافة الغربية المادية، وذلك عبر شراء منتجاتها، والترويج لثقافتها.
إذا كانت الدول الغربية تعتبر العالم المتعولم عبارة عن قرية صغيرة، وأنه قائم على التجارة الحرة والتنافس والتعاون الدولي والاتصالات، فإن هذه البنية الاجتماعية أظهرت اللامساواة، أو التصنيف وفق ما يُعرف بدول المركز والهامش
الاندماج الثقافي مقابل التنمية
تستخدم الدول الغربية دبلوماسية المساعدات، وهي؛ المال والمساعدات مقابل إلغاء بعض القوانين النابعة من الثقافة الكلية لبعض الدول، ووضع قوانين من الثقافة الغربية والليبرالية بدلًا منها. هذا بالإضافة إلى استخدام القوة الصلبة في حال عدم تنفيذ هذه التغييرات، تحت شعار؛ تطبيق الديمقراطية والحرية.
التمركز الثقافي الذي يعاني منه الغرب أظهر اللامساواة والعنصرية، خاصة ثقافة العنصر الأبيض، مثل: استقبال الغرب للشعب الأوكراني من اللاجئين البيض على حساب اللاجئين الملونين، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن التمركز الثقافي الغربي يظهر في عدم قبوله بثقافة الآخر، فيبدأ بتقسيم ثقافات الشعوب والمجتمعات بناء على المعيار الثقافي الخاص به، فيصف كل ما هو غير غربي بأنه متخلف أو ثقافة بدائية، ويأخذ بالتعامل مع المجتمعات الأخرى بعدة أساليب دبلوماسية ولغوية، نذكر منها:
- السخرية: وذلك من أجل إجبار الدول على التخلي عن ثقافتها، وأن تعتنق الثقافة الغربية المادية. وهذا الأسلوب القائم على السخرية والاحتقار يسعى لزعزعة ثقة الآخر بقضاياه والتشكيك فيها، وهو يتجلى من خلال الأفلام والمسلسلات التي تُظهر -مثلًا- أن الثقافة العربية هي ثقافة الصحراء والجِمال والغباء.
- التوجيه الأيديولوجي والإرهاب الرمزي: ويظهر هذا بشكل واضح من الناحية السياسية، وذلك في بعض المصطلحات السياسية والرموز الثقافية اللغوية المصطنعة، التي تستعملها الدول التي تمتلك القوة لفرض واقع ثقافي وسياسي عالمي جديد يخدم مصالحها، مثل: "هذه الدول لاتعرف حقيقة مصالحها"، أو "يجب على هذه الدول عدم امتلاك هذا النوع من التقنية أو الأسلحة لمنع استخدامها بشكل خاطئ، أو أن تقع في يد الإرهابيين"، أو "منع التفوق العسكري لصالح دولة إسرائيل"، أو "قانون أعداء أميركا" (catsaa).
- الوصمة: حيث تُنعت بعض الشعوب – بناء على لونها – بأنها متخلفة أو إرهابية لاعتناقها الدين الإسلامي، أو بمعاداة السامية لأنها تقف بجانب القضية الفلسطينية.
- الإقصاء الدولي: إذا كانت الدول الغربية تعتبر العالم المتعولم عبارة عن قرية صغيرة، وأنه قائم على التجارة الحرة والتنافس والتعاون الدولي والاتصالات، فإن هذه البنية الاجتماعية أظهرت اللامساواة، أو التصنيف وفق ما يُعرف بدول المركز والهامش، أي الدول التي تستطيع المنافسة الاقتصادية والإنتاج مقابل الدول غير القادرة على المنافسة، حيث إن هذه الدول قادرة على فرض عقوبات اقتصادية وسياسة عليها، بل وعزلها عن ذلك العالم الدولي، وهذا ماحدث لروسيا وإيران وغيرهما من الدول التي فرضت عليها الولايات المتحدة عقوبات جائرة؛ لأنها لا تتماهى مع مصالح الولايات المتحدة الأميركية.
الحقيقة أن قدرة الشعوب والدول على البقاء في ظل هذه اللاحدودية والاتصال الثقافي هي في أن تجعل من ثقافتها ثقافة عالمية، وإلا سيكون مصيرها الانقراض، أو أن تصبح ثقافة فرعية، أو حتى الانفصال والتقسيم الداخلي
فهذه الدبلوماسية والقيم السياسية الغربية لا تأخذ في الاعتبار الخصوصية الثقافية والنسبية الثقافية، أي الاعتراف بالتنوع الثقافي لجميع دول العالم، فكلٌّ من شعوب العالم له ثقافته وعاداته وقيمه الخاصة، والتي تشكل هُويته الحقيقية التي تظلّ ثابتة نسبيًا لا تتغير مع مرور الزمن، وأن للشعوب الحق في قبول أو رفض ثقافات معينة.. لكن حقيقة مجتمع المعلومات، وسرعة المواصلات والاتصالات، ضعّفت من قدرة الدول على القبول أو الرفض، فأصبحنا نعيش الـ "لاحدودية"، فلا حدود مانعة للاتصال، ولا يمكن إيقاف التدفق الثقافي القادم من جميع الاتجاهات.
والحقيقة أنّ قدرة الشعوب والدول على البقاء في ظل هذه اللاحدودية والاتصال الثقافي هي في أن تجعل من ثقافتها ثقافة عالمية، وإلا سيكون مصيرها الانقراض، أو أن تصبح ثقافة فرعية، أو حتى الانفصال والتقسيم الداخلي.
والنقطة الأخيرة في عصرنا الحالي في غاية الخطورة، فإن شعوبًا كثيرة قد أصبحت ترغب في الانفصال والاستقلال بناء على الثقافة، حتى لو كانت ثقافتها هي ثقافة مصطنعة!. والمثال على ذلك ما يحدث في دولة الكاميرون، فالمتحدثون باللغة الإنجليزية يريدون الانفصال عن المتحدثين باللغة الفرنسية!.
وللمقالة تتمة..
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.