شعار قسم مدونات

الذكاء الاصطناعي في إطار المؤسسات الدينية الكنسية

يقتحم الذكاء الاصطناعي قِباب الكنائس وجدارياتها الفسيفسائية محدثًا جدلًا دينيًا كنسيًا وفوضى عارمة من التصريحات المتناقضة (شترستوك)

هكذا ودونما مقدّمات يقتحم الذكاء الاصطناعي قِباب الكنائس وجدارياتها الفسيفسائية، التي تجسّد رموزًا لـ"العذراء والطفل"، و"السيد المسيح"، والمبشرين الأربعة، ورئيس الملائكة "ميخائيل" وهو يدوس الشيطان، محدثًا جدلًا دينيًا كنسيًا وفوضى عارمة من التصريحات المتناقضة، سواء في الفاتيكان بروما أو في بطريركية موسكو، القطبين الأكبرين في العالم المسيحي.

يؤكد البابا فرانشيسكو "Pope Francis"، رأس الكنيسة الكاثوليكية، أن ربط مصير الإنسان بخوارزمية ما يُعدّ أمرًا غير مقبول تمامًا

الذكاء الاصطناعي في ضيافة الفاتيكان

في غمرة الجلبة التي أحدثها الذكاء الاصطناعي يهتز الكرسي الرسولي في الفاتيكان "Vatican" مرة أخرى منذ آخر تدخل له في شأن التكنولوجيا الحيوية "استنساخ البشر".

وما بدا جليًا أن وجهة نظر قادة الكنيسة هذه المرّة أكثر شمولًا من المرة السابقة، باعتبار أنه أصبح لديهم مستشارون متخصصون من أبناء الكنيسة، لعل أبرزهم الراهب الفرنسيسكاني الأب باولو بينانتي "Paolo Benanti"، كبير مستشاري البابا بشأن الأضرار المحتملة للتكنولوجيا الجديدة، والذي مارس دورًا هامًا في تشكيل وعي بابا الفاتيكان وكبار أساقفته حول مخاطر الذكاء الاصطناعي.

تستمرّ الندوات والمؤتمرات التي تناقش المخاطر المحدقة بالبشرية جراء إساءة استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي.. يمارس المونسنيور فينشينزو باليا "Vincenzo Paglia"، رئيس الأكاديمية البابوية للحياة ومؤسسة "RenAissance"، دورًا مهمًا في تلك الندوات.

يؤكد البابا فرانشيسكو "Pope Francis"، رأس الكنيسة الكاثوليكية، أن ربط مصير الإنسان بخوارزمية ما يُعدّ أمرًا غير مقبول تمامًا.

المتابع لمجريات ما حدث من نقاشات داخل الكرسي الرسولي يدرك أن أيادي خفية لها نفوذها وسطوتها تدخلت لحرف الأمور عن نصابها، وأنتجت مشهدًا عبثيًا قل نظيره، فقد كانت المناقشات تدور حول كيفية إنشاء تحالف عالمي أكثر تنوعًا لمحاسبة شركات الذكاء الاصطناعي على المخاطر التي قد تتسبب بها نتيجة الاستخدام الخاطئ لتلك التقنيات واستغلالها للإضرار بالبشر، الأمر الذي أثار ذعر الرؤساء والمديرين التنفيذيين لعمالقة شركات التكنولوجيا الغربية (مايكروسوفت، ديب مايند للذكاء الاصطناعي المملوكة لشركة ألفابت، آي بي إم، فيسبوك)، وهو ما دفعهم للتقاطر إلى الفاتيكان أرتالًا وفرادى.

ومع توالي الزيارات والاجتماعات، انكمشت المواضيع العريضة وتقزم الطموح الكبير، واضمحل الهدف النبيل، حتى باتت النقاشات تدور حول تحيز خوارزمي لنظام صحي هنا أو هناك، يعطي الأولوية للمرضى الأصحاء البيض على حساب المرضى السود الأكثر مرضًا، بالإضافة إلى التحيز الخوارزمي في التوظيف، ومنح القروض البنكية، والتعليم، والحكم بالسجن، وقضية المهاجرين.. لقد كان أغلب تلك الأنظمة التي دارت النقاشات حولها أميركية بامتياز!

يبلغ العبث منتهاه بصياغة التزام أخلاقي بعنوان "نداء روما" في العام 2020م، وقعته شركتا "مايكروسوفت" و"آي بي إم" والحكومة الإيطالية، ويكتمل المشهد بكوميديا سوداء في العاشر من يناير/كانون الثاني 2023م، بتوقيع ميثاق أخلاقي متعدد الأديان لحماية المجتمع البشري من أضرار الذكاء الاصطناعي، وقعه -بحسب وصفهم- قادة من جميع الديانات "الإبراهيمية" الثلاثة: المسيحية والإسلام واليهودية، ولقد كان -وفقًا لتعبيرهم- حدثًا فريدًا، وكان القادة الموقعون من الديانات "الإبراهيمية"، هم: رئيس أساقفة باليا، والحاخام الأكبر إليعازر سمحا فايس، عضو مجلس الحاخامية الرئيسية الإسرائيلية، والشيخ عبد الله بن بيه، أمين عام منتدى أبوظبي للسلم.

كيف يمكن للبشرية ككل الاستفادة من هذه التكنولوجيا القوية بدلًا من أن تكون تحت رحمتها؟ قلق البابا بشأن استخدام الذكاء الاصطناعي في الحرب التي شنها الروس على أوكرانيا؟

الذكاء الاصطناعي في مائدة بطريركية موسكو المستديرة

نشد الرحال شرقًا صوب آخر حصن للعقيدة الأرثوذكسية الحقة، كاتدرائية المسيح المخلص، بطريركية موسكو (Московский Патриархат).. تعقد رسميًا ابتداء من العام 2020م الندوات، في مجلس النشر التابع للكنيسة الأرثوذكسية الروسية، حول تحديات الذكاء الاصطناعي بقيادة رئيس الأساقفة، المتروبوليتان كليمنت من كالوغا وبوروفسكي (Климент Калужский и Боровский)، وبحضور مجموعة من الأكاديميين والكتّاب ورجال الدين.

كان الحديث الذي ابتدأه رئيس الأساقفة عن ضرورة إجراء تقييم أخلاقي للظواهر التقنية الجديدة التي دخلت حياة البشر، بما في ذلك الرقمنة والروبوتات والذكاء الاصطناعي.. تستمر الجلسة بمخاوف أبداها الحاضرون، منها ما يتعلق بالخصوصية واستخدام الذكاء الاصطناعي في الطب والأمن.. كان من ضمن ما أقلق أحد الحاضرين أن قضية الذكاء الاصطناعي في بعض الحالات قد تكون مرتبطة بالأيديولوجيا المعادية للمسيحية.

ما لفت نظرنا في تلك الندوة هو الطرح الجريء الذي قدمه الكاتب سيرجي سيزاريف (Сергей Цезарев)، عندما أشار إلى أن الذكاء الاصطناعي الذي يعالج كميات كبيرة من المعلومات قادر على التحليل والتنبؤ واتخاذ القرارات الإدارية، وأن هذه التكنولوجيا تستخدم في الشؤون العسكرية والحرب الإلكترونية، وأن ما يقلقه هو استخدام الذكاء الاصطناعي في المعدات العسكرية.

في العام 2021م، أعلن المنظمون لوكالة ريا نوفوستي (РИА Новости) أن رجال الدين في الكنيسة الأرثوذكسية الروسية سيجتمعون بالخبراء من روسيا وألمانيا، وأنهم سيناقشون آفاق ومخاطر تطوير أنظمة الكمبيوتر الذكية في المائدة المستديرة، وأنه سيتم تقديم النظرة الإنجيلية للتكنولوجيات الجيدة والتكنولوجيا السيئة، كتقرير دافع في المنتدى من قبل الأسقف ثيوكتيست من بيريسيل وأوغليك (Феоктист  Перисила и Углика)، وأن رئيس كنيسة القديس سيرجيوس في رادونيج في كرابيفنيكي (Сергия Радонежского в Крапивниках) سيتحدث عن نهج الفاتيكان والمنظمات المشتركة بين الدول والمنظمات غير الحكومية في الذكاء الاصطناعي.

مع دخول العام 2022م، وانطلاق أول شرارة للحرب الروسية الأوكرانية، رصدنا خفوتًا لوميض الحراك المتقد والنشط، الذي قادته بطريركية موسكو حول الذكاء الاصطناعي، تزامن ذلك مع أخبار تصلهم من مصادر سيادية روسية تفيد بأن "بابا الفاتيكان" استقبل ضيفًا وصل بطائرة خاصة يدعى براد سميث (Brad Smith)، وهو رئيس مايكروسوفت، عملاق التكنولوجيا الأميركي، وأن اجتماعًا عقد بين الضيف والمضيف وخلال الاجتماع كان على الضيف أن يجيب عن ثلاثة أسئلة فقط، أحدها ممزوج بقلق:

كيف يمكن للبشرية ككل الاستفادة من هذه التكنولوجيا القوية بدلًا من أن تكون تحت رحمتها؟ قلق البابا بشأن استخدام الذكاء الاصطناعي في الحرب التي شنها الروس على أوكرانيا؟ ما الذي يمكن فعله لمنع التكنولوجيا من تدمير نسيج البشرية في نهاية المطاف؟

أُتبع ذلك الخفوتَ جمودٌ استمر حتى يناير/كانون الثاني من العام 2023م، عندما عقدت المائدة المستديرة في مجلس النشر التابع للكنيسة الأرثوذكسية ندوة بعنوان "البعد الأخلاقي للذكاء الاصطناعي" تحدث فيها الحضور- وفي مقدمتهم المتروبوليتان كليمنت- عن صعوبة التنبؤ بالاتجاه الذي سيذهب إليه تطوير التكنولوجيا في المستقبل، وأن المخاوف غالبًا ما تنشأ تحت تأثير الخيال العلمي للأعمال الأدبية والسينمائية والرسوم المتحركة، وتخلل ذلك العديد من المشاركات، كان أبرزها تقديم أحد الحاضرين عرضًا حول التنظيم الأخلاقي لتطبيق تقنيات الذكاء الاصطناعي في تشريعات الاتحاد الروسي.

تستمر بطريركية موسكو في تغيير نمط تصريحاتها عن الذكاء الاصطناعي، وستدعو الكنيسة الأرثوذكسية في أبريل/ نيسان من العام 2023م، عبر رئيس اللجنة المعنية بحماية الأسرة والطفولة في الكنيسة، الكاهن فيودور لوكيانوف (Федор Лукьянов)، لحظر استخدام صورة الإنسان ومثاله وصفاته ككائن حي في برامج وتقنيات الذكاء الاصطناعي، وكذا حماية القاصرين من الشبكات العصبية التي قد ترفع خطر التأثير على نفسية الطفل.

خلال تلك الدعوة يبدو أن الكاهن فيودور قد خرج عن النص، عندما أوصى بتحديد مسؤولية المطور عن محتوى المعلومات التي يبثها البرنامج، على غرار ما فعلته الصين في تشريعاتها الإدارية والجنائية، وسريعًا خرج من يهمهم الأمر في محاولة لامتصاص ما أثاره فيودور، ويتم الحديث عن أن المقترحات مجدية من الناحية الفنية، ولكنها قد تضعف الشبكات العصبية الروسية في منافسة الشبكات الغربية.

تتسرب مخاوف معهد مستقبل الحياة في موسكو إلى "الكرملين"، عبر رسالة تدعو جميع مختبرات الذكاء الاصطناعي إلى التعليق الفوري لتدريب أنظمة الذكاء الاصطناعي لمدة ستة أشهر على الأقل، وتحث الحكومة للتدخل في هذا الأمر، فيسارع المتحدث باسم الرئاسة الروسية، ديمتري بيسكوف، للرد بأن الرئيس فلاديمير بوتين قد تحدث مرارًا وتكرارًا عن أهمية هذا العمل من أجل مواكبة التطور والتقدم في هذا المجال، وأن هذا العمل سيستمر، وأما بالنسبة لوجهة نظر أولئك الذين يتحدثون عن مخاطر الذكاء الاصطناعي فإن أي دواء يتحول إلى سمّ عند استخدامه بشكل غير صحيح.

يمكنك ملاحظة أن فترة الجمود أنتجت لنا محاور مختلفة عن تلكم المحاور الجريئة والواقعية والمهمة، التي قُدمت مع بداية الحراك، وهو وإن تشابه نوعًا ما مع التحول الذي طرأ على موقف الفاتيكان، بعد سلسلة الاجتماعات مع عمالقة التكنولوجيا الغربية، فإن الفارق الواضح هو الدهاء والخبث الذي مارسته شركات التكنولوجيا الغربية، لتحييد أي نقاش يمكن أن يضعها تحت طائلة المحاسبة؛ نتيجة الاستخدام الخاطئ لتلك التقنيات، واستغلالها للإضرار بالبشر، خاصة أنها تبسط سيطرتها على أغلب التقنيات التكنولوجية في أرجاء المعمورة.

لا تبدي بطريركية موسكو أي امتعاض من التحشيد الإعلامي الغربي بزعامة "فاتيكان روما" ضد روسيا الاتحادية، ولكنها كانت ترصد صدى ذلك التحشيد في العالم المسيحي وتستعد لإستراتيجية ما

فاتيكان روما يتهم ذكاء روسيا الاصطناعي.. وبطريركية موسكو تتجاهل

يوم الثلاثاء، 8 أغسطس/ آب 2023م، بابا الفاتيكان فرانشيسكو الأول (Pope Francis) حذر من أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يشكل خطرًا على المجتمع، مسلطًا الضوء على إمكاناته التخريبية والمدمرة، وآثاره المتناقضة، ويلمح إلى تهديد التحيز الخوارزمي في التكنولوجيا. ودعا الجمهور إلى اليقظة حتى لا يتجذر منطق العنف والتمييز في إنتاج واستخدام مثل هذه الأجهزة على حساب الأكثر هشاشة واستبعادًا.

قرأتْ مطابخ الصحافة الغربية في تحذير بابا الفاتيكان ما يجب أن يصل إلى جموع المؤمنين وإلى الرأي العام الغربي، واستثمرته للتعبئة مجددًا ضد روسيا الاتحادية، مستحضرة بين ثناياه ما اعتبرته الغزو الروسي لأوكرانيا، والمخاوف بشأن الاستخدام المحتمل لأنظمة الأسلحة المستقلة، التي يشار إليها عادة باسم الروبوتات القاتلة، فضلًا عن الحرب الإلكترونية التي تستخدم تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي.

لا تبدي بطريركية موسكو أي امتعاض من التحشيد الإعلامي الغربي بزعامة "فاتيكان روما" ضد روسيا الاتحادية، ولكنها كانت ترصد صدى ذلك التحشيد في العالم المسيحي وتستعد لإستراتيجية ما.

يوم الخميس، 19 أكتوبر/ تشرين الأول 2023م، وفي إحدى قاعات "كاتدرائية المسيح المخلص" يخرج البطريرك كيريل (Святейший Патриарх Кирилл) أمام ممثلي وسائل الإعلام، وهو أعلى سلطة في الهرم الكنسي الأرثوذكسي. وخلافًا للتكهنات، انصبّ حديثه حول التقليل من شأن فكرة خروج الذكاء الاصطناعي عن سيطرة البشر، باعتبارها فرضية مصدرها الخيال العلمي، مع اعتقاده باستحالة ذلك في المستقبل القريب، كما أشار إلى أن الغالبية العظمى من الإنجازات العلمية تعمل لصالح الإنسان، وفيها ما يمكن أن تستخدم للضرر.

وأنهى حديثه قائلًا: لن نتجنب تطوير ما يتعلق بتعزيز قدرات الذكاء الاصطناعي، ولكن يجب علينا تطوير الفلسفة المناسبة، وقواعد التفاعل البشري مع الذكاء الاصطناعي، وقال: إذا كان تطوير الذكاء الاصطناعي متقدمًا على إنشاء أنظمة التحكم لهذا الذكاء، فإن أفظع الصور الرائعة التي يرسمها المؤلفون ذوو الصلة بأعمالهم يمكن أن تصبح حقيقة واقعة، (أي أنه إذا خرج الذكاء الاصطناعي عن السيطرة البشرية، فإنه يتوقف عن أن يكون اصطناعيًا ويعيش حياته الخاصة).

وفي ظل كل ذلك الجدل والتناقضات والجدليات، فإن ما يبدو جليًا للعيان أن كلا الفريقين قد قادهما يقينهما إلى أن مصير المخاطر المحدقة بالبشرية جراء إساءة استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي مرهون بمدى تعقُّل صانعي السياسات في الدول الفاعلة في مجال الذكاء الاصطناعي، فهم الوحيدون الذين بإمكانهم أن يحولوا بين البشرية وبين الجحيم الذي ينتظرها في دهاليز الجهات السيادية، والمجمعات الصناعية العسكرية.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان