يتساءل كثيرون عمّا يحدث في دير الزور بعد ثورة العشائر فيها عام 2023، والتي كان يتزعّمها الشيخ إبراهيم الهفل، ثُمّ ها هي اليوم تتكرر أحداث الإغارة والاشتباكات بين قوات قسد من طرف، وإبراهيم الهفل والمقاتلين معه من طرفٍ آخر، فما حقيقة ما يجري هناك؟ ولِمَ ثار الأهالي عام 2023 ولم يؤيدوا إبراهيم الهفل الآن في معاركه الحالية؟!
معلومات هامة عن المنطقة
انطلقت الثورة في دير الزور في الشهر الثالث من العام 2011، إذ بدأت بمظاهراتٍ سِلميَّة تُطالب بالديمقراطية وتغيير الدستور ومحاسبة المخالفين له، ومع تصاعد الاحتجاجات وجعْل المظاهرات مُسلّحة، من قِبل النظام الذي كان يستعمل السلاح؛ لمنع المظاهرات، سيطرت قوات المعارضة على بعض المناطق في المدينة، وحرّرتها من قبضة النظام خلال عامي 2012 و2013، ثُمّ بسط الثوار سيطرتهم على كامل الريف وغالب المحافظة. بعدها بدأ تنظيم الدولة يتسلّل إلى هذه المحافظة خلال عدّة شهور، واضطربت الأمور فيها، ولكن سيطر تنظيم الدولة على أكثر المحافظة خلال عام 2014.
وفي عام 2019 جاءت "قسد" – المدعومة من قوات التحالف الدولي – فسيطرت على الشق الشرقي من المنطقة (شرق الفرات)، بعد معارك شرسة دحرت فيها تنظيم الدولة. وسيطرت المليشيات الإيرانية – مدعومة بقوات النظام – على غرب النهر.
برز اسم الشيخ إبراهيم الهفل لأول مرة بالشكل الذي برز فيه، حيث تصدّر المشهد، فصار الهفل زعيمًا للثورة ضد "قسد"، وبسطت قوات العشائر سيطرتها على عدة قرى ومدن، وبدأت الوفود تتزاحم إلى بيت الشيخ إبراهيم الهفل لتحثّه على الصمود، مُعلنةً ولاءها ودعمها له
ثورة العشائر 2023 ضد "قسد"
بعد أن فرضت قسد سيطرتها على المنطقة، سلبت القرار من أهلها، وفرضت عليهم قيادات كردية تتحكم بأدق التفاصيل في إدارة المنطقة، فضيّقت على الأهالي وحاولت فرض التجنيد الإجباري على الشباب، واعتقلت عددًا من الثوار وشباب المنطقة، وحاولت فرض مناهج دراسيّة تحوي أفكارًا تخالف ما عليه دين الناس وعاداتهم وتقاليدهم.
واستولت "قسد" على الموارد الاقتصاديَّة في محافظة دير الزور بكاملها، ما أدى إلى نمو شعور السخط والكراهية لدى أهالي المحافظة على "قسد" التي ضيقت وشددت الخناق على المنطقة أكثر، وباتت تتوجس خيفة من أي تحرك قادم يستهدف وجودها في المنطقة.
وممَّا زاد الحقد على "قسد" أنَّها أقدمت على اعتقال القيادات العربيَّة في المجلس العسكري في المحافظة (والمكون من أبناء المنطقة العرب)، والذي كان يرأسُه أبو خولة الخبيل، ما أدّى إلى معاناة المنطقة من فراغ في القيادات واضطراب في الحياة بكافة مناحيها، وهذا شجّع الناس (العشائر والقبائل) على القيام بثورة ضد "قسد" ووجودها في المنطقة، فتبنّى الأهالي الثورة وهبّوا جميعًا متكاتفين لإخراج "قسد" من المنطقة.
وبرز اسم الشيخ إبراهيم الهفل لأول مرة بالشكل الذي برز فيه، حيث تصدّر المشهد، فصار الهفل زعيمًا للثورة ضد "قسد"، وبسطت قوات العشائر سيطرتها على عدة قرى ومدن، وبدأت الوفود تتزاحم إلى بيت الشيخ إبراهيم الهفل لتحثّه على الصمود، مُعلنةً ولاءها ودعمها له، في مشهد يمثل حالة فريدة من التكاتف القبلي الذي أفرزته تلك الثورة.
لم تدم الثورة طويلًا؛ حيث حشدت "قسد" قواتها لإنهائها وعملت على الحسم العسكري في جانب، والمفاوضات من جانب آخر
لم تكن علاقة إبراهيم الهفل المسبقة بأجهزة مخابرات النظام خافية على كثيرٍ من أبناء المنطقة، ولكنْ ثمة أمور شجعت الأهالي عمومًا على المجازفة بسلوك درب الثورة التي بات إبراهيم الهفل زعيمها، وأهمها:
- أن الثورة هي ثورة قَبَلية عشائرية، عماد مقاتليها من أبناء العشائر، ومنهم من كان من الثوار في المنطقة، ولم يُعهد عليهم تحالف مع النظام من قبل، كما أن إبراهيم الهفل لم يصرح بأيّ ارتباطٍ له مع قوات النظام، بل كرّر مرارًا أنّها ثورة لإعادة القرار للعشائر في المنطقة.
- أنّ واقع المنطقة، وتوازنات القوى فيها بين الفاعلين، والعلاقة بينهم في الساحة السورية، كل ذلك يدلّ دلالة واضحة على أن قوات النظام غير قادرة على التقدم إلى المنطقة، حيث المتنفذ الأساسي فيها هو التحالف الدولي.
- أن الأهالي بعمومهم، وكثيرًا من قادة ثورة العشائر الميدانيين، يرفضون تمامًا دخول قوات النظام إلى المنطقة، بل هم مستعدون لمواجهتها.
هذا بالإضافة إلى أسباب أخرى، كالذي لقيه الأهالي من استبداد وظلم "قسد"، وتحكُّمها بكلّ صغيرة وكبيرة، وفرض الإتاوات والقرارات، والاستيلاء على جميع الموارد في المنطقة. وهذه الأسباب والتقديرات ذاتها دفعت أبناء المنطقة الشرقية في فصائل الثورة في الشمال السوري إلى محاولة مساندة الأهالي في ثورة العشائر، عبر فتح معركة من منطقة جرابلس تجاه نقاط مليشيا "قسد"، شاركت فيها عدّة فصائل في الشمال.
لم تستمر تلك الثورة طويلًا؛ حيث حشدت "قسد" قواتها لإنهائها من كلّ جانب، وعملت على الحسم العسكري في جانب، والمفاوضات من جانب آخر. وكان بالإضافة إلى ذلك افتقاد المنطقة لخطوط الإسناد، ووقوع المنطقة الثائرة ضمن المجال العام لسيطرة "قسد"، التي قطعت اتصال ريف المنطقة بين شبابها، ما أجبرهم على التهدئة، التي كان ثمنها خروج إبراهيم الهفل وعدد من المقاتلين إلى مناطق سيطرة النظام.
أعلن إبراهيم الهفل بمقطع صوتي له تداولته وسائل التواصل، عن بدْء مقاتليه شنّ معركة موسعة على مواقع "قسد"، سيطروا في إثرها على حواجز لها في كل من غرانيج والطيانة وذيبان والبصيرة في الريف الشرقي لدير الزور، ونشروا قواتهم فيها
غارات قوات العشائر مؤخرًا
بمجرد أن استتب الأمر لـ"قسد" في المنطقة وأحكمت سيطرتها عليها، بدأت بإطلاق حملة اعتقالات طالت عددًا من شباب المنطقة، ممن قطعت الوعود قبل ذلك بعدم التعرض لهم، وكان أحدهم من القيادات العسكرية لثورة العشائر.
ومنذ أن انحاز إبراهيم الهفل مع بعض المقاتلين، لم تتوقف غاراتهم بين الفينة والأخرى على نقاط "قسد"، وخاصة المحاذية منها لسرير نهر الفرات، كما لم تتوقف "قسد" عن اعتقال كل من تشتبه بعلاقته مع أحد المقاتلين.
وكانت الغارات التي يشنها المقاتلون على نقاط "قسد" غارات محدودة التأثير، ولا تتعدى كونها تستهدف نقطة أو حاجزًا، دون إحراز السيطرة عليها، واستمر الأمر على ذلك حتى يوم قبل تاريخ 7 من الشهر الجاري، حين أعلن إبراهيم الهفل بمقطعٍ صوتيٍ له تداولته وسائل التواصل، عن بدْء مقاتليه شنّ معركة موسعة على مواقع "قسد"، سيطروا في إثرها على حواجز لها في كل من غرانيج والطيانة وذيبان والبصيرة في الريف الشرقي لدير الزور، ونشروا قواتهم فيها.
يرى عدد كبير من الأهالي أن هذه الغارات التي يشنها هؤلاء المقاتلون لن تؤدي في النهاية إلى تحرير المنطقة من "قسد"، وإن فعلت فإنّ السلطة فيها لن تكون للعشائر، إنّما لأذرع إيران في المنطقة
تميّزت هذه الخطوة التي قام به إبراهيم الهفل والمقاتلون عن سابقاتها بعدة أمور أهمها:
- أن المقاتلين الذين أغاروا على قوات "قسد" أغاروا على أكثر من منطقة بهجوم واحد منسق، بزخم عسكري لم يستخدموه من قبل منذ انتهاء ثورة العشائر.
- أسرَ هؤلاء المقاتلون بعض عناصر "قسد"، وجلبوهم في سفينة عبر النهر إلى مناطق سيطرة النظام، في حادثة لم يسبق لها مثيل في المعارك مع قسد.
- قامت مليشيات النظام بقصف قرية الدحلة وجديد بكارة، ما أدى إلى وقوع ضحايا من المدنيين، ثمّ قصفت قسد قرية البوليل، الواقعة تحت سيطرة قوات النظام.
- انعكاس هذه الأحداث على قوات النظام المتمركزة في محافظة الحسكة، والواقعة بين مناطق سيطرة قوات "قسد"، حيث تداولت وسائل التواصل أخبار حصارها، وقطع المياه عن المربع الأمني فيها.
وبالمجمل لم يتفاعل الأهالي من عشائر المنطقة مع هذه المعركة، التي أعلن عنها وشنها إبراهيم الهفل والمقاتلون معه، بينما تفاعلوا معه بقوة في أحداث 2023، وذلك لأسباب عدة يذكرها أهالي المنطقة والشخصيات الفاعلة فيها، وكان من أهم هذه الأسباب أنّ ما حدث في عام 2023 كان ثورة شعبية قام بها أهل المنطقة بدوافع داخلية، انطلاقًا مما يعانونه من ظلم "قسد"، بينما جاءت معركة إبراهيم الهفل هذه بدوافع أخرى، تحقيقًا لغايات وأهداف غير واضحة بالنسبة لعشائر المنطقة.
ويرى عددٌ كبيرٌ من الأهالي أن هذه الغارات التي يشنها هؤلاء المقاتلون لن تؤدّي في النهاية إلى تحرير المنطقة من "قسد"، وإن فعلت فإنّ السلطة فيها لن تكون للعشائر، إنّما لأذرع إيران في المنطقة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.