استفزني جدًا مشهد الألم الحاصل في غزة من أقصاها إلى أقصاها؛ صور مؤلمة من الحزن والدمع والألم والمعاناة، أمهات يبكين على أبنائهنّ، وزوجات يبكين على أزواجهن، عائلات تفقد فلذات أكبادها، وأطفال بالآلاف باتوا في قوائم الأيتام، وجرحى بالآلاف أضحوا في سجلات المعاقين.. وهذا معناه وجود أزمة حقيقية في واقع مرير، يشكل أزمة تحتاج إلى تفكير إبداعي للتعامل معها بعيدًا عن النمطية في التفكير، وعن الروتين، تحتاج إلى البعد عن الكلاسيكية في تناول هذه القضية، حتى نتعامل معها بمنهج مفيد، وآليات عقلانية مثمرة.
رسالتي لكم أيها العقلاء في فلسطين وعالمنا العربي، لا سيما أنتم أيها الشباب، أن تبادروا فورًا لتأسيس لجنة من الشباب المبادر المبدع، الذي يتمتع بالأمانة والثقة، والحرص على مصلحة شعبه، ليتم تشكيل مؤسسة مركزية واحدة فقط، تكون مخصصة للتعامل مع ملف الأيتام
لقد دفعني هذا المشهد المهول لقراءة التجارب السابقة في مواطن جغرافية سبقتنا، بعضها ناجح وبعضها فاشل.. اطلعت على تجارب في ليبيا واليمن وسوريا ومصر وغيرها، وتعلمت أن أفضل الحلول وأنجحها يتمثل في النظرة الهندسية للتعامل معها، حتى لا نضيع هذه الشرائح بين محاولات إنقاذها دون جدوى، كما حصل في عديد من الدول التي سبقتنا إلى هذه الأزمات، وحتى لا تكثر قضايا الاحتيال، وسرقة الأموال، وإهدار المال العام وأموال الدعم في جهود مكررة وغير مفيدة.
إن رسالتي لكم أيها العقلاء في فلسطين وعالمنا العربي، لا سيما أنتم أيها الشباب، أن تبادروا فورًا لتأسيس لجنة من الشباب المبادر المبدع، الذي يتمتع بالأمانة والثقة، والحرص على مصلحة شعبه، ليتم تشكيل مؤسسة مركزية واحدة فقط، تكون مخصصة للتعامل مع ملف الأيتام لتصب فيها كل التبرعات والهبات والمساعدات، وتقوم هذه المظلة بتوزيعها بعلم وخبرة، وإدارة ومسؤولية، ونظرة مستقبلية تتعاطى مع ملف الأيتام بصورة احترافية، تنطلق من مرحلة احتضانهم، إلى مرحلة تأهيلهم، إلى مرحلة تأمين احتياجاتهم، وصولًا إلى دمجهم الإيجابي في المجتمع، بحيث يتبع لهذه الهيئة العليا هيئات محلية موضعية في كل المحافظات والبلدات والأرياف، لتتعامل بآلية موحدة ورؤية جامعة وخبرة ناضجة مع هذه الشريحة، التي هي اليوم الأكثر احتياجًا للعمل المنتج والجاد.
ما نتحدث به اليوم بشأن هذه المؤسسة أو الهيئة أو المظلة – مهما اختلفت أسماؤها- هو حشد كل الطاقات البشرية والمعرفية والأكاديمية والمادية في إطار واحد، يمتلك الرؤية الواضحة والروح المبادِرة الإيجابية، ويمتلك الدعم الأكاديمي والتخطيطي الذي يجعله قادرًا على تحقيق أهدافه، ويعمّمها بشكل ناجح وسريع على كل الهيئات التمثيلية، التي تنضوي في إطار هذه المظلة الواحدة، المعنية بشريحة الأيتام.
الحديث هنا عن شريحة الأيتام يماثله الحديث عن شريحة المعاقين، ويتمثل ذلك بإنشاء مظلة واحدة مركزية لجمع الأموال ودراسة الخيارات، ورسم الخطط الابتكارية والنوعية للتعامل مع الأعداد الكبيرة من الإصابات والإعاقات، التي امتلأت بها الأزقّة والطرقات، حتى لا تشكل عبئًا على واقعنا ومستقبلنا.
الظروف الاستثنائية تتطلب تفكيرًا استثنائيًا، وهنا يقرع جرسكم أيها الشباب المتعلم والمخلص.. ومن لمجتمعاتكم سواكم؟
إن حجم الجهود المبعثرة وغير المنضبطة، التي حدثت نتيجة الارتجال والفوضى والعمل غير المنظم، الذي تم بعد عدة حروب شهدها عالمنا العربي سابقًا، قد أدت إلى ضياع ملايين الدولارات، وهدر آلاف القدرات الشبابية في عمل مكرر غير مجدٍ وغير نافع، وفشل بعد ميلاده بفترة وجيزة، حتى لو امتلك النية الصافية والطيبة.
مما لا شك فيه أن صناعة النجاح في التعامل مع هذه الأزمات الكبرى تحتاج إلى نظرة هندسية كبرى، تشمل الرؤية وآليات البناء، وفنون التواصل، وآليات القياس والتقويم، لتصبح لدينا في مجتمعاتنا مؤسسة مبدعة واحدة للأيتام، تتعامل مع كل احتياجاتهم ومتطلباتهم، وصناعة نجاحهم المستقبلي؛ وعلى غرارها مؤسسة واحدة تنسق وتعمل في مجال رعاية المعاقين، ومثلها مظلة جامعة لتتعامل مع الأسر الفقيرة، لتحديد الاحتياجات وصناعة التنمية للإغاثة، ومثلها مؤسسة للتعامل مع حالات البطالة، وإطار جامع واحد لإعادة الإعمار.. ونحوها. وهو ما يعني توحيد الجهود، والاستفادة من كل الدعم المادي والبشري، وصناعة النجاح التراكمي، الذي يختصر الزمن والطاقات والقدرات بصورة منتجة.
وباختصار شديد، فإن الظروف الاستثنائية تتطلب تفكيرًا استثنائيًا، وهنا يقرع جرسكم أيها الشباب المتعلم والمخلص.. ومن لمجتمعاتكم سواكم؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.