كما كان متوقعًا، منذ حجز إسرائيل كافة إيرادات المقاصّة في شهر أبريل/نيسان الماضي، فقد وافق وزير المالية الإسرائيلي "بتسلئيل سموتريتش" على الإفراج عن جزء من إيرادات المقاصة، مع استمرار قرصنة واحتجاز أموال تُكافئ تلك المخصصة لأسر الشهداء والأسرى، وأموال تُكافئ النفقات الحكومية على قطاع غزة، أي العودة إلى مربع ما بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وما قبل أبريل/نيسان 2024، دون توضيح مقدار الأموال المفرج عنها، أو آلية الإفراج، أو موعده، أو إن كان لشهر، أو أكثر، وبقي القرار ضبابيًّا.
عمليًا يعتمد سموتريتش "إستراتيجية الإلهاء" منذ توليه منصبه المزدوج، كوزير مالية، ووزيرٍ في وزارة الدفاع الإسرائيلية (وزير الإدارة المدنية)، من خلال تضخيم قضايا معينة، مثل حجز كافة إيرادات المقاصّة، أو التهديد بفك الارتباط المصرفي
جاء ذلك إثر اجتماع المجلس الوزاري الإسرائيلي للشؤون السياسية والأمنية "الكابينت"، والذي وافق – تبعًا لبيان واحتفاء وزير المالية الإسرائيلي وغُلاة المستوطنين- على شرعنة خمس بؤر استيطانية في مناطق إستراتيجية في الضفة الغربية، والدفع بمخططات لبناء آلاف الوحدات الاستيطانية الجديدة في أنحاء الضفة، إضافة إلى اتخاذ إجراءات – تعتبر سابقة – بحق البناء الفلسطيني في المناطق المصنفة (ب)، والتي تتبع للولاية المدنية الفلسطينية وفقًا لاتفاقية أوسلو، خاصة في مناطق وسط وجنوب الضفة الغربية، الأمر الذي يهدد آلاف المنشآت الفلسطينية، ويعني تهديد 21% من أراضي الضفة الغربية، التي تصنّف مناطق (ب)، إضافة إلى ما نسبته 61% من أراضي الضفة الغربية، التي تصنّف مناطق (ج)، وتخضع للسيطرة الإسرائيلية الأمنية والمدنية.
عمليًا يعتمد سموتريتش "إستراتيجية الإلهاء" منذ توليه منصبه المزدوج، كوزير مالية، ووزيرٍ في وزارة الدفاع الإسرائيلية (وزير الإدارة المدنية)، من خلال تضخيم قضايا معينة، مثل حجز كافة إيرادات المقاصّة، أو التهديد بفك الارتباط المصرفي، وعدم منح رسالة التفويض للبنوك الإسرائيلية المراسلة مع البنوك الفلسطينية، والتطرّف في ذلك، من أجل "إلهاء" المجتمع الدولي، وحتى المجتمع الفلسطيني عن خططه الإستراتيجية بالسيطرة على الضفة الغربية، وتقطيع أوصالها، وبالتالي إنفاذ رؤيته بتطبيق خطة الحسم، للسيطرة على الضفة الغربية، وإنهاء فكرة الدولة الفلسطينية.
وفي سبيل رؤيته الإستراتيجية، يوظّف سموتريتش ومن خلفه القيادة الحاكمة في إسرائيل، قضية إيرادات المقاصّة من أجل حرف الأنظار عن مخططهم الرئيس، وهو ضم الضفة الغربية بصمت، وبدون إعلان رسمي، وبشكل تدريجي وممنهج، ومن يتحرك في شوارع الضفة الغربية من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها، يرى بأمّ عينه التغيرات الجوهرية في الجغرافيا الفلسطينية لصالح المستوطنات والطرق الالتفافية، والبنى التحتية لخدمة المشروع الاستيطاني الإحلالي.
ويأتي ذلك ضمن رؤية احتلالية استيطانية متكاملة، وهو ما عبّر عنه سموتريتش بشكل واضح في اجتماعاته مع غُلاة المستوطنين منذ أيام خلت، حيث قال إن الحكومة الإسرائيلية منخرطة في خطة سرية لتغيير الطريقة التي تحكم بها الضفة الغربية، ولتعزيز سيطرة إسرائيل عليها بشكل لا رجعة فيه، بدون اتهامها بضمها رسميًا، مشددًا في خطابه على أن الهدف الرئيس لهذه الخطة هو منع الضفة الغربية من أن تصبح جزءًا من الدولة الفلسطينية، وأضاف: "أقول لكم إنه أمر درامي للغاية، مثل هذه التغييرات تشبه تغيير الحَمض النووي للنظام".
مع أهمية إيرادات المقاصّة، التي تعتبر العمود الفقري للإيرادات العامة في فلسطين، وتشكّل حوالي 68% من إجمالي الإيرادات، فإنها أداة من الأدوات الإستراتيجية في إسرائيل، لإحكام السيطرة على الضفة الغربية
وبذلك تتضح "إستراتيجية الإلهاء" التي يقودها وزير المالية الإسرائيلي، ومن خلفه الحكومة الإسرائيلية، عبر الحديث عن إجراءات مالية متطرفة، كحجز كافة إيرادات المقاصة، أو التهديد بوقف العلاقة المصرفية بين البنوك الفلسطينية والإسرائيلية، من أجل امتلاك أدوات ضغط إستراتيجية لابتزاز الحكومة الإسرائيلية أولًا، والمجتمع الدولي ثانيًا، وإلهاء الفلسطينيين بقضايا المقاصّة والعلاقة المالية، من أجل تسجيل نقاط ومكاسب تراكمية في ملف الاستيطان، والسيطرة الفعلية على الضفة الغربية، دون إثارة أو صدام مع المجتمع الدولي، ودون مؤتمرات صحفية، أو إعلانات عامّة.
بالتالي فإن سموتريتش يوظّف مصطلح الإدارة بالأزمة، حيث يخلق أزمة تتعلق بالمقاصّة، تتداعى دول من العالم من أجل حلّها، وتشغل بال الفلسطينيين، وتصبح حديثهم الدائم، وشغلهم الشاغل، وبالمقابل يعمل على حلّها جزئيًا، أو التخلي عن بعض أدواته الإستراتيجية "كروت اللعب"، مقابل تحقيق إنجازات إستراتيجية تصبّ في إنفاذ رؤيته بالسيطرة وضمّ الضفة الغربية، دون التفريط بتلك الأدوات.
ومع أهمية إيرادات المقاصّة، التي تعتبر العمود الفقري للإيرادات العامة في فلسطين، وتشكّل حوالي 68% من إجمالي الإيرادات، فإنها أداة من الأدوات الإستراتيجية في إسرائيل، لإحكام السيطرة على الضفة الغربية، وستبقى أداة تحت الطلب في كل وقت، وسيفًا مصلتا على رقاب الفلسطينيين.
لذا فإنه بتقديري كباحث، لن تُنهي إسرائيل أزمة إيرادات المقاصّة، بل ستوظّفها أينما احتاجت ذلك، سواء كانت لعقاب الفلسطينيين بالحجز والقرصنة، أو لإرضاء المجتمع الدولي لمنح جزء من تلك الإيرادات للفلسطينيين، مقابل حرف الأنظار عن الخطة الجوهرية بالسيطرة على الأرض والموارد، وصولًا إلى تقويض فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.