شعار قسم مدونات

هل يشبهنا دون كيشوت؟

كتاب دون كيشوت
غلاف كتاب "دون كيشوت" للكاتب الإسباني ميغيل دي سرفانتس (الجزيرة)

كُلما زرت الجزائر العاصمة صعدت دون ملل إلى أعالي القصبة العتيقة، وحاولت التزام الصمت، ورؤية المدينة البيضاء الهشة من السماء، وملاحظة الصراع الأزلي بين المستعمِر وصاحب الأرض، وشيء ما يهمس لي بأنّ علي لابوانت كان هناك راكضًا في أزقة القصبة، وقائدًا لحرب العصابات.

شيء ما يربطني بقوة بمرسى الجزائر الكبير، ويجعلني أحلق مع النوارس، لكنّ مسار الكاتب الإسباني ميغيل دي سرفانتس، الذي يتجلى من بعيد، والذي وقع أسيرًا لدى أحد "رُيّاس" البحر العثمانيين، ثُمَّ نُقل من الأميرالية إلى القصبة السفلى، ثم إلى مغارة صغيرة بحي بلوزداد (حملت اسمه لاحقًا)، مكث فيها خمس سنوات وخرج بعدها برائعة "دون كيشوت دي لامانشا"، هو في الحقيقة ما يعيدني إلى هذه الأعالي، ويجذبني لها بشكل وجدانيّ عميق.

قرأت مرة أنّ الكاتب الأرجنتينيّ الفذ "خورخي بورخيس" قال: "كتابان لا يبعثان على الملل: دون كيشوت وألف ليلة وليلة"، ودون كيشوت رجل طويل هزيل، يدعى في الأصل ألونسو كيخانو، يظنّ نفسه فجأة في مهمة لنشر القيم النبيلة للفرسان، فيقود معه صديقه سانشو، الذي كان أكثر نزوعًا إلى المادية، مُنطلقًا في خوض مغامراته، مُحاولًا إنقاذ المظلومين، ومُعاقبة الظالمين، وتبديد الأساطير، وإرساء مبادئ الخير في المجتمع.

لقد اكتشفت أنّ دون كيشوت هو الثورة ضدّ كل هذه المظالم، حتى لو لم تفضِ في النهاية إلى شيء، لكنّها -على الأقل- تحفظ غاية ما يمكن للمرء أن يحفظه ويموت من أجله: كرامته

روح الإنسان في عالم ماديّ

كان دون كيشوت لسنين طويلة بالنسبة لي مثال الإنسان الساذج الأحمق، الذي ينظر إلى العالم نظرة وردية متفائلة، والذي يعتقد أنّ الأوهام يمكن لها أن تتحقق، وأن سيفه الصدِئ وحصانه المهترئ يمكن لهما أن يغيرا العالم. ولطالما استعنتُ باسمه في مقالاتي لأكتب عن التنظيرات غير الواقعية التي لا نحتاج لها، لكني توقفت مرة وفكّرت: ماذا لو كان دون كيشوت محقًّا؟ وماذا لو كان يشبهنا في الواقع؟

إعلان

يقول عبد الرحمن بدوي عن هذه الشخصيّة: "دون كيشوت تجسيد للمثل والقيم المجرّدة، وهو الجانب المثالي من الوجود الذي يصرعه الجانب الواقعيّ؛ إنّه يمثل روح الإنسان"، ففي كلّ محاولاته لتغيير الواقع، يعكس لنا هذا الرجل فطرة الإنسان التي تميل إلى الخير، وتكره رؤية المقهورين، حتى لو كان هذا العالم في الحقيقة مليئًا بالسقوط القيميّ والانحدار الأخلاقيّ.

وهو كذلك مثال للتضحية التي يتحملها أناس دون آخرين في أي مجتمع؛ لأجل مصلحة الجميع؛ وهي فضيلة لا نراها اليوم في عالم يزخر بالفردانية، أنظرُ له وهو يخاطب سانشو قائلًا: "ألا تعلمُ أنّ حياة الفرسان الجوالين عرضة لألف حادث مزعج؟ وأنّهم يشعرون دون انقطاع تقريبًا بوجهَي القدر، بحلوه ومرّه، وليس بينهم من هو معفًى من تقلبات الدهر وسوء الحظ؟".. إنّه مدرك تمامًا لعاقبته، لكنّه يفضّل أن يحمل العبء على كاهليه دونًا عن الجميع ويجاهد في سبيل أمور صعبة التحمل، ويصبر على سخرية الذين كانوا ينظرون إليه على أنه مجنون.

وفي وقتٍ أصبحنا لا نفهم كيف يجرؤ الناس على التضحية، تأتي مقولة عالم الاجتماع البولنديّ "زيجمونت باومان": "إنّ الشهداء أناس يجاهدون ضدّ أمور يشقّ تحملها، لا لأنّ موتهم أكيد فحسب، بل لأنّ تضحيتهم الكبرى لن تكون على الأرجح محلّ تقدير واحترام"، لتذكرنا بدون كيشوت مجدّدًا!

هذا المسكين لقي كلّ أنواع السخرية والاستهزاء والمتاعب، وحرق الكتب من طرف الكاهن، وتعرّض لمآسٍ لا متناهية، لكنّه ظلّ مقتنعًا أتمّ الاقتناع بما يفعل، وظلّ مقدرًا لحجم تضحياته، على عكس ما نراه الآن في عالمٍ يتوكّأ على لوحة خشبية، تتأرجح وسط بحرٍ شاسع بين مدٍّ وجزر. ظلّ يحرّض حنجرته الكسيرة على الصراخ رغم صمم المستمعين، وظلّ يئنّ من خيبات حرب خاضها بلا هوادة ضدّ أحزان هذا العالم، ليذكرنا ببذرة الأمل في مكان فقير فقرًا مدقعًا من كل القيم، مليء بالآلام والحروب والفقدان والقهر.

إعلان

لقد اكتشفت أنّ دون كيشوت هو الثورة ضدّ كل هذه المظالم، حتى لو لم تفضِ في النهاية إلى شيء، لكنّها -على الأقل- تحفظ غاية ما يمكن للمرء أن يحفظه ويموت من أجله: كرامته. ألم يقل مظفر النواب، شاعر الغضب والمهاجر الأبديّ، إنّ كل شيء دون الذلّ هيّن؟.. "سبحانك كل الأشياء رضيتُ سوى الذلّ.. وأن يوضع قلبي في قفصٍ في بيت السلطان".

وهو كذلك رمز لقيم العدالة الاجتماعية، والتشارك والتضافر، ورغبته الدائمة في التلاحم بين الناس، تجعلني تلقائيًّا أسقطها على ما يحدث في عصرنا من تضخم للـ "أنا"، وفقدان للقدرة على الإنصات، وتفكّكٍ للجماعات، وتفاضل للفردانية. يقول مثلًا: "… الذين كانوا يعيشون آنذاك، كانوا يجهلون هاتين الكلمتين: لك ولي. في ذلك العصر المقدّس، كان كل شيء مشتركًا".

وهو أيضًا -بشكل أو بآخر- يجسّد دعوة لإعادة لمّ شمل العائلات، وتحسين العلاقة بين الجيران، والخروج من قوقعة الذات التي تأسرنا وتمنعنا من تشكيل علاقات مستدامة مع الآخرين، تحرمنا من لمّة الأحبة على طاولة واحدة، ومن ديمومة الروابط الاجتماعية، واللقاء في المناسبات، وتشارك الأهل في كل ما يملكونه، فالـ "أنا" تحرمنا من الدفء والانتماء، وتجعل الحياة كلها مشروع هجرة وغربة اجتماعيّة تدعو إلى الافتخار، لأنّ الملتزمين اجتماعيًا أصبحوا موضة قديمة.

هذا هو سليل النبوة الحسين -رضي الله عنه- يُترك وحده يقاتل، بعد أن وُعد بتجمع الناس حوله ومناصرتهم له، وبعد أن أرسل أهل العراق له الكتب يبايعونه ويسألونه أن يَقدُم إليهم لمقاتلة يزيد بن معاوية، وبعد أن وصل كربلاء تركوه وحيدًا، فاستشهد هو وجميع أهله

لستَ وحيدًا.. لقد سبقك الوحيدون

لقد علمني دون كيشوت كذلك أنّ من يسير في سبيل الحق يجد نفسه في الغالب وحيدًا في هذا العالم، غريبًا، مفتقدًا للأنس والرفقة التي تَرْبِتُ على مآسيه وجراحه وتسعفها، وتطمئنه بأنّ الحروب التي يخوضها ضدّ خيبات الطريق قد سبقه إليها من هم قبله.

هذا هو الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري – رضي الله عنه – كان أصدق الناس لهجةً، كما يقول عنه الحبيب المصطفى – صلى الله عليه وسلّم – وهذا ما تركه وحيدًا في الحياة وفي الممات، "يرحم الله أبا ذرّ، يمشي وحيدًا، ويموت وحيدًا، ويبعث يوم القيامة وحيدًا"، ولم يكن يملك سلاحًا يقاتل به، ولا جمعًا غفيرًا يقابل من خلاله، لكنّه لم يوفّر على من رآهم قد انتهكوا حرمة القيم والأخلاق رفضه وتنديده، فآنس الغرباء من بعده، وظل مثالًا لهم، يستأنسون بوحدته كلما أنهكتهم متاعب السبيل ومشقّة الطريق.

إعلان

وهذا هو سليل النبوة الحسين -رضي الله عنه- يُترك وحده يقاتل، بعد أن وُعد بتجمع الناس حوله ومناصرتهم له، وبعد أن أرسل أهل العراق له الكتب يبايعونه ويسألونه أن يَقدُم إليهم لمقاتلة يزيد بن معاوية، وبعد أن وصل كربلاء تركوه وحيدًا، فاستشهد هو وجميع أهله. مع أنّه قد أُعلِم سابقًا بخذلان الناس له، حينما قال له الشاعر الفرزدق: "أما القلوب فمعك، وأما السيوف فعليك"، لكنه آثر التضحية على الاستسلام، واختار مجابهة الهزيمة على التنازل، وظلّ رمزًا قائمًا للتضحية، والبطولة المتعبة التي تفضي إلى الموت، حفاظًا على القيم والأخلاق.

وهذا بالضبط ما حصل مع دون كيشوت.. لقد ظل وحيدًا، مهمومًا، لكنه رغم أتعابه يحاول أن ينير السبيل من خلال كل حكمه وأفعاله التي تضع القيم منطلقها الأول، ويطمئننا -نحن الذين نجاهد قدر الإمكان كي نحفظها في طريقنا، ولا نتخلى عنها في حياة تملي علينا ذلك- أننا لسنا وحيدين، وأنّ المعركة بين الخير والشرّ مستمرّة دومًا، ولا يمكن لها أن تتوقف.

إنه في الحقيقة يشبهنا، ويشبه غريبنا وأسيرنا، ومظلومنا، ومقاتلنا، ومتعبنا، ويشبه الروح التي لا تذعن حتى لو اضطرّت إلى جرّ أذيال الخسارة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان