عند الحديث عن الهجرة السورية قد يعود الإنسان إلى الوراء لسنوات طويلة، فالتاريخ يعيد القارئ إلى أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين باتجاه الأميركتين، إذ كان للكثير ممن هاجروا نصيب في حياة جديدة، وجذور بعيدة عن وطنهم الأم. ومن هنا تأتي فكرة "التاريخ يعيد نفسه" ولو في بعض التفاصيل، فما حدث في سوريا سابقا، جرى مع معطيات مختلفة، تتعلق بالهروب عبر قوارب هشة بحثاً عن الحياة، ويمكن أن يصفها عدد من المتابعين بأنها هجرة لعقول لم تستطع التحمل فقررت إيجاد بيئة مناسبة لها، وعلى اختلاف أشغالها.
كلنا يعلم أن الإساءة السياسية تشبه العنف المنزلي إلى حد كبير، فهي تخلق الخوف والشفقة على الذات ولديها الإمكانية على جرّك إلى مكان مظلم للغاية، يشبه الى حد كبير إلى قتل النفس نتيجة الشعور بأنك لا تملك أي فرصة للمضي قدماً، خاصة وأنك في حاجة ماسة إلى شخص يخبرك بما ينبغي عليك فعله، قد يشكل الهروب نوعاً آخر من زعزعة البنية التحتية في البلد الأم، والتي لا تتعلق بالبناء والخدمات المادية وحسب، بل باليد العاملة التي ستنهض بهذه البناء حال وجود المال اللازم لإعادة الإعمار، أو من خلال الابتكارات والحلول التي ربما يفكرون فيها، للنهوض بالمناطق السورية.
المغترب السوري اليوم هو أهم من الثروة المعدنية الموجودة في سوريا نفسها، لأن حقول البترول والغاز بكل بساطة يمكن أن تحترق أو تجف أو يتم السيطرة عليها كما حدث فعلا
ومن هذه الكلمات يبدأ قلمي بكتابة تلك المدونة واصفا بأولى أسطرها فحوى الموضوع متمثلا بباقي الطيور السورية المهاجرة عن بلادها، ومن أجل أن نتمكن من مواصلة الحياة اتخذنا من ألمانيا وطناً ثانياً لنا، ومن مقاطعة في إيران تحديدا أصبح لي صوتٌ سوريّ قادم من مدينة حلب المخملية، ولكن بنبرةٍ فيها أكثر ديمقراطية في عالم أكثر ديمقراطية.
ما بين عامي 2013 و2015 حدثت انطلاقة موجة الهجرة للسوريين، وفتحت الأبواب من الدول الغربية للاجئين الذي خرجوا إما بقصد الهرب من الخدمة الإلزامية أو خوفاً من الانفلات الأمني وارتفاع وتيرة التصعيد في البلاد، وتوالت بعدها السنين وتوالى معها عدد الأدمغة الهاربة من شبح البقاء في سوريا، لكن مع انخفاض في أعدادهم مقارنة مع السنوات السابقة.
وبعيدا عن الأرقام والإحصائيات لنوعية الاختصاصات التي هاجرت سوريا في فترة الحرب وانتقلت للعيش في أوروبا أو أميركا الشمالية، وبعيدا عن السبب والمسبب التي دفعت بهؤلاء السوريين في عام 2015 -وأنا واحد منهم- بترك البلاد من خلال الطوفان السوري الشهير. آنذاك أصبحت هنالك أصواتا سورية جديدة تمثل نفسها في المغترب بالمقام الأول وبلدها الأم، إذ أصبحت العقول السورية في المغترب وبعد قرابة العشرة أعوام اليوم الثروة المعدنية السورية التي لا تنضب.
فمع انتشار السوريين في أصقاع الأرض باتت كلمتهم محور اهتمام في معظم الدول، كيف لا وقد ابدعت العقول السورية في مختلف المجالات العلمية وتصدرت الحدث من خلال تفوقها على باقي المغتربين من الدول الأخرى.
وبرأيي فإن المغترب السوري اليوم هو أهم من الثروة المعدنية الموجودة في سوريا نفسها، لأن حقول البترول والغاز بكل بساطة يمكن أن تحترق أو تجف أو يتم السيطرة عليها كما حدث فعلا، بينما العقول السورية تكبر دائماً وتتمدد بخبراتها في أصقاع الأرض.
أعلمُ تماما أننا نحتاج أسباباً أقسى من العقل والمنطق لكي نبرر تلك الهجرة، أسباب أكثر انفعالاً، أكثر سطوة وحضوراً، فالهجرة كانت موجودة ماقبل الحرب السورية، والسبب أن جذورنا كانت لا تنبت بأريحية تامة في الأماكن التي ولدنا فيها.
ببساطة أنا أتكلم عن المغترب من الدرجة الأولى، إذ إن هناك الكثير من المغتربين، ولكن الاستثنائيين قلائل، وقد ظهروا جيدا. وكم نحن اليوم بأمس الحاجة الى المغترب والمستثمر؟، وهما وجهان لعملة واحدة وخاصة في ظل الوضع الاقتصادي الراهن.
إني أرى أن المغترب يستحق التسهيلات كافّةً، أكثر من الدبلوماسي العادي، لأن الدبلوماسي العادي موظف يمثل الدولة في الخارج بشكل مؤقت، إنما المغترب صاحب البصمة يمثل الدولة بالخارج بشكل دائم، هذا من ناحية وأما من ناحية أخرى فالمغترب الناجح منطقياً لن يترك نجاحاته ببلد الاغتراب ويعود إلى بلده الأصلي لأي سبب بدون ضمانات حقيقة للبدء باستثمار جديد غير معروف النتائج والمخاطرة إلا إذا كان هنالك مزايا حقيقية، وليس حبراً على ورق.
على الجانب المظلم للمغترب والاغتراب، أعلمُ تماما أننا نحتاج أسباباً أقسى من العقل والمنطق لكي نبرر تلك الهجرة، أسباب أكثر انفعالاً، أكثر سطوة وحضوراً، فالهجرة كانت موجودة ماقبل الحرب السورية، والسبب أن جذورنا كانت لا تنبت بأريحية تامة في الأماكن التي ولدنا فيها.
أنا لا أنظر من ثقب الباب إلى وطني بنظرة رمادية، لكنني أنظر من قلب مثقوب، وأميّز بين الوطن الغالب والوطن المغلوب، ويغتالني الشوق إلى وطني بكل إنجاز أنجزه في الغربة، وبكل نجاح أستقر به وأحتفل به بنفسي مع نفسي، أسوة بباقي المغتربين الذين يثبتون جذورهم في تربة غير تربتهم.
وإلى أن نتعلم كيف نفهم بعضنا البعض في المغترب لن يتغير مصير سوريا، إذ يغيب عن بالنا الإنسان وبدلاً من ذلك لا نرى سوى أيديولوجيات وفلسفات من "صح وخطأ"، صحيح أن البعد قد طوّر وجهة نظرنا في الحياة، فالحياة تأتي في المقام الأول بالنسبة لنا، مضيفا على ذلك، أن الأكثرية اليوم لا يملكون أي رغبة في العودة إلى الوطن.
لابد اليوم للاعبين في الشأن السوري أن ينظروا لما ذكرت، إن كانت هنالك محاولات جديّة لإعادة الإعمار الإنساني أولا والمتمثلة بسكانها الأصليين (الهاربين)
بات السوري في الخارج يحصل على كل ما كان يفتقده في الداخل، ما يفتح له باب التفكير في عمله فقط مع وجود الحافز لإثبات نفسه في البيئة المضيفة، وخاصة أن السوريين مشهورون بامتيازهم للشغف العملي.
قد يختلف الكثير من الأشخاص حول فكرة أن الهجرة مولدة للإبداع، فمنهم من يقول "إن الحاجة لتحصيل المال وإعالة الأسرة أو متابعة الدراسة ستؤدي للإبداع"، فيما يرى طرف آخر أن الإبداع في سوريا موجود عندما يكون له مقابل وكلاهما على حق.
العقل السوري أيها القارئ لا يحتاج إلى مكان للإبداع، تكفيه البيئة الحاضنة الجيدة والراحة والأمان والأهم الانفتاح المطلق على مستقبل لا محدود بدون مشاكل وتعقيدات، ولابد اليوم للاعبين في الشأن السوري أن ينظروا لما ذكرت، إن كانت هنالك محاولات جديّة لإعادة الإعمار الإنساني أولا والمتمثلة بسكانها الأصليين (الهاربين)، إذ إن تلك الأخيرة استطاعت في المغترب عموما وألمانيا خصوصا بناء جسر بين ثقافتين مختلفتين، جسر يمتازون به هم عن باقي الجنسيات، ولكن وبنفس الوقت بُني في داخلهم طابور من الأسئلة عن الوطن لا تُستكمل أجوبتها بالتفكير فيها فقط، فقد تكون مفتوحةً عمراً كاملا بدون أجوبة.
رفعت الأقلام وجفت الصحف.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.