يبدأ الكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطو كتابه "أتكلم جميع اللغات، لكن بالعربية" بحكاية "اللسان المفلوق"، عبارة لدى الهنود الحمر يعنون بها الرجل الأبيض، تتجاوز مدلولها السطحي لتحمل حكما أخلاقيا يمكن اختصاره في "الازدواجية القبيحة"، هذا ما يطلق عليه في الثقافة العربية "ذو الوجهين"، يُرمَز إلى الوجه في عبارة الهنود الحمر باللسان، انزياح غير بعيد، ففي البلاغة العربية يطلق الجزء على كلِّه، ليعبر عن مركزيته، كما في "الحجُّ عرفة".
يمكن هنا الربط بين العبارتين الأولَيَيْن بقولنا: "الوجه لسان"، لسان مبدع لنصٍّ قابل لتعدد القراءات، أو بالأصح عتبة نص، كنص القِرى -مثلا- في شطر بيت حاتم الطائي محاججا امرأة اسمها أم غرثان "هل أبسط وجهي إنه أول القِرى؟". الوجه كاشف للمغارات البعيدة في النفس، واللسان – كما هي العبارة الدارجة- معبّر عن مكنونات النفوس، لكن الإنسان استطاع تشقيق اللسان وتلوين الوجه، خذ الرئيس بايدن نموذجا، اللسان المفلوق والوجه المتلون، إنه يجسد صدق المقولة الهندية "اللسان المفلوق".
أطلق عليها لقب "المتربصة"، قال: لا نتحرّر من لغتنا التي تربّينا عليها في أسرتنا، والتي اعتدناها وألِفناها، فهي حتى إن كانت في حالة كمون، فإنها تظل متربصة في المناسبات جميعها
ما يستحضره كيليطو في العبارة السالفة "اللسان المفلوق" هو شكلها، إمكانية تجريبها عنوانا داخليا لقضية كتابه المركزية، أي مسألة اللغة الأسرية واللغات الوظيفية، يبدو هذا التعبير ملتبسا، ما أعنيه هو أن كيليطو في كتابه هذا ينطلق من مسلَّمة تقول إن ما يسمى باللغة الأم (يجادل كيليطو في هذا المصطلح في ثنايا الكتاب) لا يمكن أن تطمرها اللغات الأخرى التي نتعلمها لتأدية وظيفة ما، تواصل يومي، قراءة تراث آخرين، نقل ثقافة حضارة أخرى.. إلخ.
أطلق عليها لقب "المتربصة"، قال: "لا نتحرّر من لغتنا التي تربّينا عليها في أسرتنا، والتي اعتدناها وألِفناها، فهي حتى إن كانت في حالة كمون، فإنها تظل متربصة في المناسبات جميعها"، هذه هي قضية الكتاب، قدمها كيليطو – على غير عادته- بهذا الحسم اللساني القاطع، فهو حذر دائما من الأحكام المطلقة الحتمية، لا بد أن تطل المتربصة برأسها بين الحين والآخر، كأنها تذكرنا بأنها ما تزال مهيمنة، تطل من خلال نبرة أو تركيب أو لفظ.
حتى جاك دريدا الذي ظن أنه استطاع التخفي وراء الاندماج العميق في المجتمع واللغة والثقافة الفرنسية من خلال كتاباته؛ حتى هو تطل عليه هذه اللغة الأسرية من خلال أحاديثه الشفوية، تقول له أصلك جزائري، ودريدا – حسب كيليطو- من الكتاب القلائل، إن لم يكن هو "الكاتب المغاربي الوحيد الذي لا يكشف في كتاباته أنه منحدر من خارج، من بلد بعيد عن المركز".
ينقل كيليطو عن دريدا قوله: "لا أظن في هذه اللحظة إلى أن يثبت العكس أن بإمكان القارئ أن يكشف عن طريق القراءة أنني (فرنسي من الجزائر)، هذا إن لم أعلن أنا نفسي عن ذلك"، ولكن عند الحديث الشفوي لا يكون دريدا بمثل هذا اليقين: "لا أعتقد أنني أضعت نبرتي، وأنني فقدت كل ما يميز لهجة فرنسي من الجزائر، يتجلى ذلك بحدة في بعض المواقف اليومية، عند الغضب أو الاندهاش والتعجب".
قال الجاحظ في البيان والتبيين: ولما علم واصل بن عطاء أنه ألثغ فاحش اللثغ؛ رامَ إسقاط الراء من كلامه، وإخراجها من حروف منطقه، فلم يزل يكابد ذلك ويغالبه، ويناضله ويساجله، ويتأتى لستره والراحة من هجنته، حتى انتظم له ما حاول، واتسق له ما أمَّل
يتابع كيليطو نقاش موضوع الختم الرسمي للهوية اللغوية، لكن هذه المرة من خلال سياق فكاهي، ولكنه عميق جدا، لثغة واصل بن عطاء وإشكاله هو مع الراء الباريسية: "فيما يخصني، فإن الحرف الذي يفضحني ويشي بي هو حرف الراء، لن أتمكن قط من النطق بحرف الراء الباريسي، ولا سبيل إلى الاستغناء عنه، فهو موجود في كل جملة".. تستدعي معضلة الراء الباريسية وتحدي الاستغناء عنها قصة إمام المعتزلة واصل بن عطاء، الذي كان يشكو من لثغة في الراء. والتداعي ملمح رئيس في أسلوب كيليطو الكتابي، لكننا هنا لسنا بصدد الكتابة عن فنه الأسلوبي.
لنعد إلى قصة واصل بن عطاء مع الراء المعضلة، قال الجاحظ في البيان والتبيين: "ولما علم واصل بن عطاء أنه ألثغ فاحش اللثغ؛ رامَ إسقاط الراء من كلامه، وإخراجها من حروف منطقه، فلم يزل يكابد ذلك ويغالبه، ويناضله ويساجله، ويتأتى لستره والراحة من هجنته، حتى انتظم له ما حاول، واتسق له ما أمَّل".. يعلق كيليطو على قصة واصل مع الراء تعليقا طريفا، يقول: "لكي يتقن التكلم بلغة، كان عليه أن يفقرها ويحرمها من مكوِّنٍ أساس لأبجديتها وألفاظها".
يطرح الكتاب قضية أخرى ذات بعد حضاري ثقافي، وهي قضية الموقف من الأجنبي الذي يتكلم لغتنا كما نتكلمها، وهي قضية لا تخلو من عمق وطرافة، ناقش كيليطو مسألة اللغة والآخر في كتابه "لن تتكلم لغتي"، ولكنه أعاد نقاشها أو بدأه في كتابنا الذي ندرسه في هذا المقال، وذلك من خلال ما كتبته أميلي نوتومب في روايتها عن بطلتها التي تلقت إنذارا من مديرها في العمل، لأنها أزعجت زائرين للمؤسسة بلغتها اليابانية الصقيلة، التي تنطقها بسحنتها وألوانها ونغماتها الأصيلة.
الحفاظ على الذات تضمنه اللغة الأسرية (الأم)، هي -كما يسميها- اللغة المتربصة، التي تظهر لنا فجأة كأشباح نيويورك كلما ظننا أنها اختفت إلى الأبد، والحفاظ على العلاقة الحسنة بالآخر يضمنه الحرص على مصلحة العمل
قال لها مديرها بكل وقاحة ثقافية: "قدمتِ القهوةَ بعبارات توحي أنك تتكلمين اليابانية بكامل الإتقان".. مشكلتها أنها تشعر اليابانيين بأنها مثلهم تماما، تلتحم بهم من خلال اللغة، وهذا ما لا يريدونه، أو لا نريده جميعا – حسب كيليطو-، على الأجنبي أن يبقى محتفظا بطابعه الذي يشير إلى أنه أجنبي.
يمكن إذن أن نفهم لماذا يعترف كيليطو أنه – كما هو عنوان كتابه- يتكلم جميع اللغات لكن بالعربية؛ المسألة واضحة، إنه يريد أن يُبقي على شيء يميزه عن الناطقين الأصلاء باللغات الوظيفية التي يتكلمها إزاء لغة الأسرة.. التربية.. الأم، وذلك من أجل الحفاظ على الذات من خلال الإبقاء على شيء من الانتماء الحضاري، ومن أجل الحفاظ على علاقة حسنة بالآخر الذي ينزعج ضمنا وأحيانا تصريحا – كما في حوار بطلة رواية رعب وخفقان المشار إليها- حين نلتحم بثقافته من مسافة صفر.
الحفاظ على الذات تضمنه اللغة الأسرية (الأم)، هي -كما يسميها- اللغة المتربصة، التي تظهر لنا فجأة كأشباح نيويورك كلما ظننا أنها اختفت إلى الأبد، والحفاظ على العلاقة الحسنة بالآخر يضمنه الحرص على مصلحة العمل. وفي النهاية، لن يتكلم أحد منا لغة الآخر، فالمسألة يقف في وجهها سدّان، سدٌّ لساني وآخر ثقافي، فهل ستستطيع التقنية أن تجعلنا نتكلم لغة واحدة؟.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.