شعار قسم مدونات

أحسن المروءة حفظ الود!

من فيلم "الحب المنسي" (نيتفليكس)
نرى الإنسان مشتتًا غير مستقر في محبته في صداقاته في زواجه سرعان ما يفارق ويستبدل هذا بذاك (نيتفليكس)

يقول امرؤ القيس:

أأسماء أَمسى وُدّها قد تغيَّرا .. سنُبدل إن أَبدلت بِالودّ آخَرا

وهذا لعمري مذهب ينافي الصدق في المحبة، وينافي معاني الإخلاص.. والذي يقرأ البيت يعلم يقينا أنه قول القلِق المَخوف، الذي لا يأمن محبة محبوبه، ولا يُقدّر المحبة حق قدرها، يجهل معاني الوفاء، ولم تختبر نفسه طرق ثبوت الصلة؛ فهي عنده سهلة مستبدلة غير مأسوف عليها، وهذا ينافي طبيعة المحبة التي لا نملكها ولا نقررها.

إنما هي شيء يقع في القلب، فكيف تطيب نفسه أن يتحول عن ود أسماء؟ ويا لهف نفسي! كيف وقع القول على أسماء حين علمت أنها مستبدَلة لو لامس منها امرؤ القيس تغيرا؟

ولو قلت إنه قول رجل لاه خلا قلبه من محبة أسماء على الحقيقة، فهو ود عابر، ووداد لأيام معدودات وتنقضي، فهذا أحسن عذر له تفهم منه مقصده ومرداه من البيت..

رحلت أُمامة للفراق جِمالَها .. كيما تبينَ وما تريد زِيالها

ولئن أُمامة فارقَت أَو بَدَّلَت .. وُدّاً بِوُدِّكَ ما صرمتَ حبالها

أما صدق المحبة؛ فشأن مغاير لتلك الحال، شأن لا يعرفه إلا محبوب نبيل فيه من صفات الوفاء والكرم والنبل والإخلاص؛ فيأمن كل محبوب جانب الآخر وإن تفرق الشمل، وإن عرضت العوارض وقد حالت دونهما الأحوال، وحتى لو اجتمع عليهما الوشاة، فهذا "بدوي الجبل" يأنف خيانة العهد، ويسأل سؤال المنكر..

إعلان

لم أخن لا والصّفا عهدكم .. أيّ خير في وجوه الخائنين؟

نعم أي خير في حبيب ينتظر منك تغيرًا حتى يستبدل بك ولا يبالي؟ هنا يطرق لك سؤال لا مفر منه: هل كان يحبك حقًا؟ ونعم، أي خير في محبة قلقة، يكون محبوبك فيها مُدّعي المحبة، مستطرف الهوى، خائن الوجه، متغير الود؟

تشجيع فكرة سهولة الاستغناء والتخلي والاستخفاف بميثاق المحبة شاعت في هذه الأيام بصورة مخزية، فنرى الإنسان مشتتًا غير مستقر في محبته، في صداقاته، في زواجه، سرعان ما يفارق ويستبدل هذا بذاك، وتلك بغيرها، ويفارق ولا يدوم على حال، إنسان لا يألفك إلا أياما ويتبدل، ولا يؤلف إلا أيامًا ويتغير، ربما غاية ما يبلغه في محبته شهر، لكن لا تأمل منه إلا التحول.

سهولة الاستبدال وهوان الفراق على النفس حال لا تُبقي لك حبيبًا ولا تذر لك صديقًا، إنما الكريم الذي يعز عليه حبيبه ويأسف عليه؛ فيبذل وسعه في البقاء، ولزوم الصلة ورأب الصدع.

ولابن حزم في طوق الحمامة حديث يصف فيه نفسه: "وكذلك أنا في السلو والتوقي، فما نسيت ودًّا لي قط، وإن حنيني إلى كل عهد تقدم لي ليغصني بالطعام ويشرقني بالماء". ويقول: "ما مللت شيئًا قط بعد معرفتي به، ولا أسرعت إلى الأنس مذ كنت، لا أقول الألاف والإخوان وحدهم، لكن في كل ما يستعمل الإنسان من ملبوس ومركوب ومطعوم وغير ذلك، وما انتفعت بعيش ولا فارقني الإطراق والانغلاق مذ ذقت طعم فراق الأحبة، وإنه لشجى يعتادني، وولوع هم ما ينفعك يطرقني، ولقد نغص تذكُّري ما مضى كل عيش أستأنفه، وإني لقتيل الهموم في عداد الأحياء، ودفين الأسى بين أهل الدنيا".

وانظر قول الشاعر:

أَنتَ المَلولُ الّذي استبدلتَ بي بدلاً .. قصَّرتَ بي، وشرَيتَ اللؤم بالكرم

جعل الاستبدال من اللّؤم، والوفاء من الكرم؛ فإنما هي صفات من حفظ العهود، لأن المحبة عِلق ثمين، وحفظ الوداد مزية لا تنفك عن كريم، وكرم النفس صفة ملازمة في كل حال وعلى أي صورة؛ فلا يغيرها نأي ولا بعد! فهو عنده وعد صدق لا يضيعه، ولا يبدله ولا يتحول عنه.

إعلان

يقول القاضي الفاضل:

لم أَنسَ عهدكم على بُعدِ المدى .. ويقلِّل النسيان بالإنسان

وهذا البيت في حروفه وألفاظه ناطق على صدق عريض، فقد استعمل النفي بلم في ما لا يتوقع حصوله؛ فهو متحقق من صفته، ثابت عليها، واثق من إخلاصه وحفظه للذمم؛ لا يأتي من قِبله نسيان العهود على بعد المدى، يرى أن نسيان العهود يقلل من الإنسان، "وبعد المدى" في كل شيء في تفاوت المحبة، وبعد المدى في المكان والزمان والحال..

والمعنى نفسه متمثل عند الأخطل التغلبي؛ فمحبوبته "أمامة" إن أكثرت أو أقلت، رحلت أو بانت، وصلت أو أقامت، فلا يستبدل ودها ولا يتحول عن محبتها، ولا يتفاخر بقدرته على الاستبدال، وإن صرم الود والخذلان لا يأتي من جهته، وهذا مذهب فريق من الشعراء.

رحلت أُمامة للفراق جِمالَها .. كيما تبينَ وما تريد زِيالها

ولئن أُمامة فارقَت أَو بَدَّلَت .. وُدّاً بِوُدِّكَ ما صرمتَ حبالها

قيمة المحبوب من قيمة المحبة التي ألَقت على قلبه، وأُنفقت فيها أيامه، وبُذلت فيها من نفسه وروحه. المحبوب عزيز وفراقه عزيز، والحر الصادق يأسف على أمانيه التي لم تكتمل

وابن حجر العسقلاني له في معنى الوفاء أبيات تقع في القلب وتعجب العقل؛ فهو المحب الوفي الذي يروعه رحيل محبوبه، يشعر به ولا يأنف من ذكر ما يعتمل في نفسه، لأن محبته صادقة – وذاك شأن المحبة-، فهو يتشاغل، ويتلهى؛ ليخفف وطأة بِعاد محبوبته؛ فلم يستبدل، ولم يستعض عنها بغيرها، ولم يتقلب ولم يرتد عنها، وهو قادر..

فلا وحياة القُرب لم أَنسَ عهدكم .. ولو أَنّني في البُعد بالروح أَفجَعُ

سلوا النجم يشهد أَنَّني بِتُّ ساهِداً .. وإِلّا الدجى هل طاب لي فيه مضجع

أُطالع أَسفار الحديث تشاغُلاً .. لأَقطع أَسفاري بخُبرٍ يجمَّع

أُقضّي نهاري بالحديث وبالمُنى .. وفي الليل ما لي مؤنِسٌ يتوجَّع

وللشعراء كلهم أبيات مؤنسات في حفظ العهد، كلٌّ يُبِين فيهن مدى عِزة محبوبته، ومكانتها في عينه؛ فيؤكد أنها مطلوبة مرغوبة وهو الطالب الراغب وإن قل نائلها، وإن عسرت عليه، حتى أنه يشك في ذكرها عهده.

إعلان

فقيمة المحبوب من قيمة المحبة التي ألَقت على قلبه، وأُنفقت فيها أيامه، وبُذلت فيها من نفسه وروحه. المحبوب عزيز وفراقه عزيز، والحر الصادق يأسف على أمانيه التي لم تكتمل، فللمحبة في القلب موضع لا يهون استبدالها باستخفاف، ولا بالسهل على النبيل التفاخر باللامبالاة، وعدم الاكتراث، من يفي في الحب الطريف هو الذي قد وفى في الحب التليد، وإظهار ذلك من المروءة، صفة أهل الفضل والأدب، فكيف إن كان المحبوب يستحق؟ فهو العظيم المهيب في عين محبوبه، وأرى أن بيت كثير أحسن ما قيل في هذا المعنى ولا يعادله قولٌ:

وأُقسمُ ما استبدلتُ بعدكِ خُلَّةً .. ولا لكِ عندي في الفؤاد قَسِيم

فذاك الوداد المحض الذي لا يُرتجى له ثواب، ولا يُخشى عليه عقاب، ذاك الوداد الذي يليق بالكريم الصدوق، وقد ملأت عينه محبوبته بحق؛ فلا قسيم لها..

كم منظر حسن للعين يكدره غياب المحبوب! وكم طيف من الخيال يلوح على الانشغال والتلهي في يومه وساعاته! وإن حاول السلوان تبقى عند الصادق الكريم غصة ليس عليه أن ينكرها

لا يخفى اقتران الهوى بحفظ العهد، فإن كان الهوى متحققًا ثابتًا تحقق الوفاء ولازمه، وهذا معنى ذكره ابن زيدون بقوله:

فَما استعضنا خَليلاً منكِ يحبسنا .. وَلا استفدنا حبيباً عنكِ يثنينا

أَبكي وفاءً وَإِن لم تبذُلي صِلَةً .. فالطيف يقنعنا والذكر يكفينا

هنيئا لحبيب ينعم بصدق مودة ممن يحب، يخلق له الأعذار، ولا يروق له غيره، ذلك النعيم المقيم الذي لا يتبدل ولا يتحول، تزول الجبال ولا يزول وده ولا يستحيل مع البعاد.!

وَوُدّي عَلى حسب ما تَعلَمينَ .. تَزولُ الجِبال وما إِن يَزول

فلا تستحيلي لِبُعد الديار .. فإنّي مع البُعد لا أَستحيل

فكم منظر حسن للعين يكدره غياب المحبوب! وكم طيف من الخيال يلوح على الانشغال والتلهي في يومه وساعاته! وإن حاول السلوان تبقى عند الصادق الكريم غصة ليس عليه أن ينكرها؛ فمكابدة الجوى، ولزوم الصبر، والتماس الأعذار، وحفظ العهود، ودوام الصلة، والبذل والثبوث، والمأمن، كلها شواهد الصدق فكيف تطيق نفسه التبدل.!

إعلان

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحتفي ويبذل ويكرم صويحبات خديجة رضي الله عنها ويقول: "كانت تأتينا أيام خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان". وروى الإمام أحمد وغيره عن أنس بن مالك – رضي الله عنه- قال: ما خطبنا نبي الله صلى الله عليه وسلم إلا قال: لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له.

وإذن ما قولك بعد هذا القول في بيت امرئ القيس:

أَأَسماء أَمسى وُدُّها قد تغَيَّرا .. سنبدل إِن أَبدلتِ بِالوُدّ آخَرا؟

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان