انتهى الاحتلال الأميركي لليابان عقب توقيع اتفاقية سان فرانسيسكو في 8 سبتمبر/ أيلول 1951، ونفذ الاتفاق بعد أشهر قليلة في 28 إبريل/ نيسان 1952، فعادت اليابان مستقلة بعد ما يقارب ست سنوات من الاحتلال، عدا قواعد عسكرية أمريكية بقيت مزروعة على أرضها منذ استسلامها عام 1945، وما زالت إلى يومنا هذا.
كانت هذه الواقعة بين الاستسلام والانسحاب السلمي وفق اتفاقية مبرمة دافعا للبحث عن إمكانية حدوث نوع من الانسحاب الهادئ، فأميركا لن تنسحب بهذه السلمية دون أن تتأكد من تحقيق مآربها، وجني مبتغاها. ولعل الجواب الأولي واضح من خلال التواجد الدائم للقواعد العسكرية الأمريكية، ولكن هذا ليس كل شيء بالتأكيد.
لم تكن اليابان على حق في مطامعها تجاه كوريا والصين وغيرها من الأراضي التي غزتها.. ولعل هذا مبعث من مباعث استسلامها، فصاحب الحق لا يستسلم ولا يعرف معنى الانهزام، بل يستميت لنيل حقه وحريته، وهذا ما لم نره في الحالة اليابانية رغم جبروت الدولة وأنفتها حتى تلقيها ضربات الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية. فقد كانت اليابان حكومة وشعبا مدركة بأن الدموية المرتكبة لم تكن لتأت عليها بخير، وسط عالم يفوقها حبا لسفك الدماء.
سيناريو الانسحاب السلمي هذا، هو حلم يحلم كثير من العرب والغرب بتحققه في أراضينا في فلسطين المحتلة.. تجلس الأطراف الغاشمة إلى جوار أصحاب الأرض المستلبة، فتتناقش وتتشاور، وتصل إلى اتفاقيات توقعها علّها تنسحب أو تصل إلى سيناريو سلمي دون تكاليف حروب وإراقة دماء.. لكن الفطن إذا تأمل عرف أنه لا انسحاب ولا سلام مجاني بالمطلق، فلابد من أن فواتير باهظة -ولو كانت خفية- ستدفع، بمحض إرادة أهل تلك الأرض أو لا.. وهذا ما حدث في قصتنا اليابانية..
غيرت أميركا كذلك نظام التعليم في اليابان، وتدخلت به وأضفت عليه فلسفتها وأسلوبها.. ولكم أن تتخيلوا أثر التعليم في بناء شخصية الأجيال الجديدة في اليابان ولو بعد حين، وهذا ملمح هام للتأمل.
لم تترك أميركا اليابان بهذه السلمية المطلقة، ولكنها أعادت صياغة حياتها حسب معايير ترتضيها لها.. كسرت شوكتها وحددت لها مقاييس حياة وسعي جديدة، وأميركا – كما يعي كثيرون- عملاق المعسكر الرأسمالي المنتصر، تخطط استراتيجيّا.. فلا تهمها الانتصارات الآنية فقط، بل تسعى للانتصارات والأهداف بعيدة الأمد.. وهذه الفكرة واجه بها الضابط البحري الياباني تشيهايا ماساتاكا أحد الضباط الأميركيين خلال فترة إعادة الإعمار، فقال: "لقد خسرنا بخوض المعارك بدلًا من خوض الحرب"؛ فقد وعى اليابانيون ضعفهم في التخطيط الاستراتيجي مقارنة بأميركا.
ومن أهم خطوات التغيير الأميركي في اليابان تغيير نظام الحكم فيها، وجعل سلطة الإمبراطور صورية، وعلمنة الدولة.. وهنا مفهوم أريد الوقوف عنده؛ فقد ساد تعبير لدينا ينص على أن العلمانية هي فصل الدين عن الدولة أو السياسة، ولكن الواقع أن العلمانية هي فصل الدين عن مجريات الحياة اليومية، سواء على مستوى الفرد أم المجتمع، فلا يرتبط علم ولا عمل بمقتضيات الدين وتشريعاته، بل تسود ثقافة المصلحة المادية أولا.
غيرت أميركا كذلك نظام التعليم في اليابان، وتدخلت به وأضفت عليه فلسفتها وأسلوبها.. ولكم أن تتخيلوا أثر التعليم في بناء شخصية الأجيال الجديدة في اليابان ولو بعد حين، وهذا ملمح هام للتأمل.
ومن أهم ما غيرته أميركا كذلك التعداد السكاني.. وذاك حين استقدمت أميركا الدكتور دمينغ لأجل عمليات إحصائية تتعلق بتعداد السكان.. فتعداد السكان وضبطه مما يشغل قادة الدول الحديثة بالطبع، فهم بحاجة إلى تقنين عدد الأفراد ليسهل عليهم قيادتهم والتحكم بهم، فكيف بالدول المحتلة التي تخطط للتحكم بثروات الدول التي تحتلها بشكل مباشر أو غير مباشر، وسأعود لهذه النقطة..
إذاً، فقد تدخلت أميركا في مفاصل الحياة اليابانية حتى ضمنت تشكيلها كما يحلو لها، بما يضمن تحول الموقع والدور الياباني في الخارطة الاستراتيجية عالميا، بل ويضمن انطواءها تحت لواء معسكرها، المعسكر الرأسمالي الذي أثبت انتصاره لاحقا في وجه المد الشيوعي الروسي.. وبدأت حياة الإنسان الياباني تتغير بالتدريج، وتخرج من إطار الإنسان الياباني المحافظ المتمسك بهويته، ولئن ظننا أن الشعب الياباني من أكثر الشعوب محافظة على قيمه وعاداته وهويته كما نسمع، فإن هذا الكلام لم يعد دقيقا بما يكفي اليوم، فلا بد أن لأهل الشرق عاداتهم المختلفة تماما عن الغرب، إلا أن هذه العادات قد بدأت بالانحلال شيئا فشيئا، إلى أن بدأ الإنسان الياباني يأخذ نمط حياة الإنسان الغربي، الذي يحيا وفق المنظومة الرأسمالية وما تتركه من انطباعات فردانية.
بين حرص الإنسان الياباني على النجاح والتفوق في مهامه، وبين انطوائه على ذاته المهووسة بمقتضيات الحياة المادية، تقوقع الفرد الياباني على نفسه واعتزل مجتمعه
والمشكلة الأكبر التي نستطيع تلمس هذه الحقيقة من خلالها يمكن استخلاصها من عدة مشاهد:
فبعد أن استطاعت اليابان الوصول إلى المرتبة الثانية في الاقتصاد العالمي، في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، تراجعت إلى المرتبة الثالثة عام 2010 بعد أن سبقتها الصين؛ وفي عام 2023 أُعلن عن تراجع اليابان إلى المرتبة الرابعة بعد أن تخطتها ألمانيا. والواقع يقول إن الاقتصاد الياباني يشهد تراجعا كبيرا مستمرا، إذ تعاني اليابان اليوم من التضخم الاقتصادي، ويتجلى ذلك بنقص اليد العاملة وانخفاض الاستهلاك الوطني بشكل أساسي. ولعل تحول نظام الفائدة البنكية من الفائدة السلبية إلى الإيجابية بعد ثباتها 17 عاما مؤشر قوي على حالة الاضطراب الاقتصادي.
حيث تشهد اليابان تراجعا في تعداد السكان اليوم، وهذه صورة ثانية تعود بنا إلى فكرة خطط تحديد النسل والتعداد السكاني التي ذكرت أعلاه؛ فقد نقص عدد الشباب في اليابان وازاداد عدد العجائز، بل تجاوز عدد الوفيات عدد الولادات حتى.. وقد أبدت نسبة لا يستهان بها من الشباب والشابات رغبة في العزوف تماما عن الزواج والإنجاب، وتشير بيانات إحدى الدراسات اليابانية إلى أن السبب الأكثر شيوعًا من قبل 40.5% من النساء لعدم رغبتهن في الزواج هو أنه "يضع حدًا لأنشطتها وأسلوب حياتها"، فبالتأكيد ستواجه النساء صعوبة في تحقيق التوافق بين متطلبات الأمومة والعمل.
من جهة أخرى، كان السبب الرئيسي الذي ذكره 42.5% من الرجال هو فقدان الحرية المالية، وضغوطات العمل الكبيرة وغير المستقرة، ما أدى إلى نشوء هذه الحالة من العزوف عن الزواج والارتباط، فتحول حال الأسرة اليابانية من عائلة كبيرة بخمسة أطفال وأكثر، إلى عائلة تواجه الكثير من الصعوبات والعوائق لتنشأ أصلا.
ولكن!! لماذا يعتبر هذا تغيراً كبيراً في اليابان؟ لأن اليابانيين كشعوب شرقية كان للعائلة عندهم أهمية وقيمة كبيرة، وكان لكبير الأسرة سلطة على جميع أفراد الأسرة.. فتبدُّد قيمة الأسرة واضمحلالها يعد تغيراً كبيراً في المجتمع الياباني.
دخل الهالوين اليابان عام 2000، وأصبح الاحتفال فيه عادة سنوية في مدن عدة من اليابان، ولكم أن تتخيلوا أن منها مدينة هيروشيما.. وما هذا إلا صورة من صور العولمة وطبْع العالم بصبغة واحدة
وارتفعت معدلات الانتحار أو الرغبة به في أوساط الشباب الياباني، كما أن الكثيربن اليوم حريصون على استقلاليتهم ومصالحهم ومكانتهم؛ وبين حرص الإنسان الياباني على النجاح والتفوق في مهامه، وبين انطوائه على ذاته المهووسة بمقتضيات الحياة المادية، تقوقع الفرد الياباني على نفسه واعتزل مجتمعه.. في حين، كان المجتمع الياباني يميل جدا للعمل الجماعي مقارنة بنظيره في الغرب، وهذا ما ساعدهم على تطبيق نظرية الدكتور دمينغ لتطوير الإنتاجية، حيث تقوم في جزء كبير منها على روح العمل الجماعي، بل ويميل اليابانيون إلى الانخراط والانتماء إلى مجموعات تشابههم في تخصصاتهم وهواياتهم وأعمارهم، بشكل أوضح بكثير من شعوب الدول الغربية مثلا على حد تعبير علماء الأنثروبولوجيا، أمثال رايشاور في كتابه "اليابانيون".
إلا أنه رُصد ارتفاع ملحوظ في حالات من العزلة الاجتماعية والانطواء على الذات، وبدأت بالانتشار أكثر فأكثر، وهذه الحالة يطلق عليها باليابانية "هيكيكوموري".. ويمكن للفرد المصاب بهذا النوع من العزلة البقاء في البيت من عدة أشهر حتى عدة سنوات.. وتقول وسائل الإعلام اليابانية إن بعض مرتكبي الجرائم المسجلة هم بمعظمهم من المصابين بالهيكيكوموري هذه.. وقد تجاوز عددهم مليوناً ونصف حسب تقارير يابانية.
وهذا مثال اجتماعي آخر: الهالوين!! نعم الهالوين، ذاك العيد ذو الأصل الوثني الذي يعتقد أنه يعود إلى شعوب كلتية أو سلتية قديمة، يعد الإسكتلنديون والإيرلنديون اليوم من سلالاتهم.. العيد الذي استنسخته المسيحيون لاحقا مع دخول المسيحية إلى أوربا وانتشارها رغم محاربتهم لها في البداية، وانتقل لاحقا إلى أميركا في القرن التاسع عشر مع هجرات الإيرلنديين والإسكتلنديين إليها.. استوقفتني مشاهد أحد أفلام المحقق الشهير كونان، وتدور أحداثه مع مراسم الاحتفال بعيد الهالوين، وهو ما دفعني للبحث حول هذه الظاهرة.. فما الذي يدفع مجتمعاً في أقاصي الشرق، له ما له من العادات والتقاليد، إلى الاحتفال بعيد مستورد جملة وتفصيلا من دول الغرب؟!
دخل الهالوين اليابان عام 2000، وأصبح الاحتفال فيه عادة سنوية في مدن عدة من اليابان، ولكم أن تتخيلوا أن منها مدينة هيروشيما.. وما هذا إلا صورة من صور العولمة وطبْع العالم بصبغة واحدة، وبالتأكيد هي صورة من صور "ولع المغلوب بالغالب"، تلك العبارة الشهيرة التي أطلقها الفيلسوف ابن خلدون في تفسير تقليد الشعوب لشعوب أخرى انتصرت عليها.
ما هذه الصور إلا بعض من كثير من صور الانقلاب المجتمعي، فماذا لو فكرنا باختفاء ثقافة زي الهاكاما للرجال والكيمونو الياباني المحتشم للنساء، وكيف استُبدلت بها ملابس كاشفة، واحتُفظ بها لذكريات إحياء التراث لا أكثر.. ماذا عن نمط العمارة اليابانية الجميل؟ وعن ناطحات السحاب المهولة؟!
كل هذه النقاط تشير إلى تزعزع تمسك اليابان بهويتها.. إذاً، فإن نهضتها في هذه المرة، وإن كانت قد بنيت على جهود جبارة من أبنائها، مع استغلال أقصى لكل فرصة تمر في طريقها، فإنها أودت بها بالتدريج إلى الانخراط في تيار تريد لها دول الاحتلال والهيمنة أن تصل إليه، لتنطوي تحت جناح منظومتها فتحكم السيطرة عليها بطريقة أو بأخرى، وها هو التراجع قد بدأ بالفعل كما نرى ..على الرغم من ذلك فإن مراقبي مؤشرات التغيير في اليابان يقولون إن تغيرات المجتمع الياباني لم تكن تجري بسرعة كبيرة كما كانت في دول أخرى، ذلك أن في اليابان شعباً كان متمسكا فعلا بعاداته وتقاليده وفكره.
تُرى.. هل ما تصوغه مقتضيات الحداثة اليوم، وما تفرضه علينا من مفردات لمجاراة الواقع ولأن نصبغ كلنا بصبغة واحدة، هو الخيار الأمثل اليوم؟
ألم تبدأ اليابان بالتراجع والتقهقر فعليا، بعد كل ما بذلته من طاقات وجهود جبارة لتحجز مكانا في مصاف الدول المتقدمة اقتصاديا رغم بدئها من حالة تكاد تكون هي العدم؟ أليس من الجيد أن نتمايز؟.. يفيد بعضنا بعضا، نتناقل خبراتنا بالتأكيد دون أن يستورد بعضنا مفاهيم حياة الآخر. أم علينا أن نذوب في بوتقة واحدة حتى تجعلني في عداد المتحضرين مثلك؟ أما يجب أن يكون لكل حضارة مميزاتها ومقوماتها وثقافتها الخاصة، التي تساعدها على تطوير كينونتها بما يتوافق مع طبيعتها محافظة على إرث عظيم حملته أجيال؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.