كان من المتوقع ألا تنمو نبتة أو يظهر شكل من أشكال الحياة في مدينتي هيروشيما وناكازاكي إلا بعد 70 عاما من إلقاء القنبلتين الذريتين صيف 1945، حسب تصريح هارولد جاكوبسن أحد العلماء الذين عملوا على تصنيعهما.. إلا أنه بحلول الخريف من العام نفسه ظهرت بعض الأعشاب البرية، وأزهرت بعض أشجار الدفلة والكافور في هاتين المدينتين، وكأنها شعاع الأمل بعد أهوال مسحت أشكال الحياة عنهما، ولوثت أنهارهما، وهواءهما وتربتهما.
وبالفعل فقد أزهر الأمل، فبعد هذا الدمار المهول بسنوات قليلة، أصبحت اليابان الثانية اقتصاديا في العالم، ولو أن هذا لم يدم لها طويلا! لكن دعونا ننظر الآن.. ما هو حال اليابان بعد إعلان الاستسلام مباشرة؟
أيقن اليابانيون وأقروا بهزيمتهم كليا، بل حتى الصحف أصبحت تصر على ذلك، لم يكن الهدف من ذلك هو الركون إلى الإحباط، ولكن التأكيد على أهمية الانتقال إلى مرحلة البدايات الجديدة!
أصبحت اليابان على هذا الدمار الهائل الشامل في مدينتي هيروشيما وناكازاكي، وفي عموم البلاد؛ وبالطبع فإن الوضع النفسي للشعب صار مدمَّرا.. واستسلمت اليابان كليا، بحكومتها وشعبها للدول الحلفاء، واستلم الجنرال الأمريكي مكارثر إدارة اليابان نيابة عن الحلفاء؛ ولا يخفى على أحد أن أمريكا فعليا كانت هي المسيطرة على الأمر برمته.. تم تشكيل محكمة عسكرية وحوكم مجرمو الحرب من القيادات اليابانية، وكان الإعدام مصير ثلة منهم، واستُثني الإمبراطور من المحاكمة، ربما حفاظا على هيبته أو أن الهدف كان تحييد صورته لاحقا دون كسرها.
أيقن اليابانيون وأقروا بهزيمتهم كليا، بل حتى الصحف أصبحت تصر على ذلك، لم يكن الهدف من ذلك هو الركون إلى الإحباط، ولكن التأكيد على أهمية الانتقال إلى مرحلة البدايات الجديدة! فلم يركن اليابانيون للهزيمة كليا، بل تهيؤوا مباشرة لمرحلة جديدة، تطوي صفحة لتفتح أخرى في التاريخ الياباني؛ فاستسلم اليابانيون ولكن لم يفقدوا عزمهم، وهذا تماما ما أكدت عليه الخطابات الرسمية في المذياع والصحف حينها.. وهنا ملمح يستحق الوقوف عنده والتأمل به والاستفادة منه.
كانت أمريكا قد رسمت مخططا متكاملا لإعادة إعمار اليابان قبل عدة سنوات حتى من احتلالها وإرسال قواتها إليها؛ فقد أعدت مجموعة من سياسييها وعسكرييها وعلماء الأنثروبولوجيا لدراسة اللغة اليابانية جيدا، والتمكن من دراسة مجتمعها وقيمه وضوابطه. وتم عقد مجلسين لإعادة إعمار اليابان من قبل الدول الحلفاء، أحدهما في واشنطن والآخر في طوكيو، وبما أن أهم قطبين في التحالف كانا روسيا وأمريكا، فقد تحول المجلسان إلى ساحة لمناوشات الحرب الباردة، إلا أن مكارثر كان ماضيًا بخطته بكل الأحوال.
تم إلغاء وجود الجيش في اليابان لنبذ فكرة الحرب، وإبعاد اليابانيين عنها تماما.. إلى أن سُمح لها لاحقا بالحصول على جيش بسيط للدفاع عن النفس، في ظل وجود الجوار المتوتر خاصة بين أمريكا وكوريا
ديانة اليابان الرسمية كانت هي الشنتوية في ذلك العصر، وتدخل هذه الديانة في مجريات أحداثها وقراراتها وطبيعة حياتها.. وقد سبق لليابان أن غيرت ديانتها الرسمية من البوذية إلى الشنتوية لتوافق نهجها في توحيد البلاد، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فللدين دور في سياساتها ومجريات حياتها بطبيعة الحال.. وجاءت أمريكا وغيرت ذلك على يد مكارثر بشكل مباشر، فأضفت الصيغة العلمانية على الدولة.
تم العمل على إصدار الدستور الياباني الجديد، والذي ينص على ثلاثة تغييرات أساسية:
- تحييد الإمبراطور وجعل سلطته صورية، وإبطال الاعتقاد بألوهيته، وهو ما خرج الإمبراطور شخصيا وأعلنه للشعب كخطوة أساسية على طريق علمنة الدولة.
- اعتماد تجربة النظام البرلماني البريطاني وتطبيقها في اليابان، وهو ما يبدو أن أمريكا – ونتيجة لدراستها للواقع المجتمعي الأنثروبولوجي الياباني- قد وجدته الأمثل للتطبيق في اليابان.
- وأخيرا، وهو الأهم، فقد تم إلغاء وجود الجيش في اليابان لنبذ فكرة الحرب، وإبعاد اليابانيين عنها تماما.. إلى أن سُمح لها لاحقا بالحصول على جيش بسيط للدفاع عن النفس، في ظل وجود الجوار المتوتر خاصة بين أمريكا وكوريا، مع الإشارة إلى أنها طورت أسطولها العسكري نوعا ما في السنوات الأخيرة، وبالتأكيد تم زرع قواعد عسكرية أمريكية على سواحل اليابان..
كما عملت أمريكا على صعيد آخر على صياغة نظام تعليمي جديد كليا لليابان، بما يتناسب مع مبادئ الديمقراطية الأمريكية، وتعزيز ممارسات الحرية.
بعد إلغاء الجيش والمؤسسة العسكرية للبلاد، توجهت القدرات المالية والبشرية بشكل أكبر إلى الصناعة، ولعل طبيعة الشعب الياباني المعتاد على التقشف كانت مما ساعد على التأقلم على الوضع الجديد.
حتى الآن، كل ما ذُكر يجعل اليابان في وضع حرج، فكيف كان تعامل الجانب الياباني مع هذه التغييرات؟ وماذا بذلوا لتعود عجلة الحياة والنمو الاقتصادي من جديد؟
- رغم استسلام القيادات اليابانية للتعديلات والصياغات والبنية الإدارية الأمريكية الجديدة، فإنهم لم يدخلوا في حالة سبات وسكينة، ولربما ظنوا فعلا أن هذه الصياغة الإدارية الأمريكية الجديدة ستأتيهم بخير، على اعتبارها دولة متقدمة انتصرت وكسبت الحرب، وهذا ما كانت تنم عنه تصرفات القيادات اليابانية في تلك الفترة، من اتساق في التعامل مع الطرف الأمريكي.
- لا ننس بأنها لم تكن المرة الأولى التي تخط فيها اليابان مسار التغيير، لهذا فقد كانت تمتلك قوة عاملة مدربة منذ فترة ما قبل الحرب، وجمع الشعب الياباني بين الثقافة العالية ومهارات الصناعة وقيم أخلاقية مجتمعية تدفع للتطور.. وبالتأكيد، فقد كان لها من الإداريين من أصحاب القلوب والعقول الواعية لمصلحة البلاد والشعوب. وتحرك اليابانيون مستغلين بعض العوامل، كحاجتهم الملحّة إلى بناء نظام صناعي جديد، بديل عن النظام القديم الذي أنتج بضائع بجودة منخفضة نوعا ما.
- وبالمجمل، فبعد إلغاء الجيش والمؤسسة العسكرية للبلاد، توجهت القدرات المالية والبشرية بشكل أكبر إلى الصناعة، ولعل طبيعة الشعب الياباني المعتاد على التقشف كانت مما ساعد على التأقلم على الوضع الجديد.
- استفادت اليابان من عوامل خارجية متمثلة بالحرب الكورية عام 1949، التي جعلت من اليابان سوقا مفتوحة في المنطقة، ومثلت نقطة الدعم اللوجستي للقوات الدولية، خاصة الأمريكية منها؛ وهذا الاستغلال للفرص رافق المسيرة اليابانية عموما.
إضافة إلى هذه العوامل، يعتبر البعض أن الحظ قد حالف اليابان فعلا في مساق تغيير العجلة الاقتصادية. فسابقا، لم تكن المنتجات اليابانية ذات جودة عالية، بل كانت -على العكس- معروفة برداءتها وسرعة عطبها، وهذه كانت فعلا سمعة المنتج الياباني في ذاك العصر.. وأيقن اليابانيون أنه لا بد ولا مناص من رفع جودة منتجاتهم ليكتسحوا السوق العالمية.
لعل أشهر الأمثلة على دور النظرية هو معمل شركة تويوتا للسيارات، إذ يقال إنه إلى اليوم يمكنك أن ترى صورة الدكتور دمينغ في بهو الشركة مع صورتي المدير الحالي ومؤسس الشركة السابق
وكانوا قد سمعوا بعالم إحصاء أمريكي يدعى إداورد دمينغ، وكان هذا العالم قد طور نظرية إحصائية، تفيد في السيطرة على نوعية الإنتاج ورفع جودة المنتج. لم تعبأ أمريكا بهذه النظرية، فقد كان إنتاجها وفيرا وسوقها كبيرة جدا، وكانت تعتمد أسلوب الإنتاج أولا وفحص المنتج ثانيا، ولو ظهر عطب ما في المنتج تقوم برميه مباشرة وتُنتج غيره، فلم تكن تعبأ بهدر، وكان المهم السرعة في الإنتاج.. أما اليابان، ومع محدودية مواردها وعوزها المالي، فكانت تحتاج تماما إلى تحسين المنتج وتقليص الهدر.
وشاءت الإرادة الإلهية أن تقوم أمريكا عام 1947 باستقدام الدكتور دمينغ لإدارة عملية ضبط التعداد السكاني في اليابان والتخطيط لها؛ وعندما علم اتحاد العلماء والمهندسين اليابانيين بذلك استغلوا الفرصة، ودعوا البروفسور دمينغ لتقديم المحاضرات وشرح نظريته للمهندسين اليابانيين، فرحب بذلك بكل سرور.. وبالفعل أخذ اليابانيون بهذه النظرية وقاموا بتطبيقها.
ولعل أشهر الأمثلة على دور النظرية هو معمل شركة تويوتا للسيارات، إذ يقال إنه إلى اليوم يمكنك أن ترى صورة الدكتور دمينغ في بهو الشركة مع صورتي المدير الحالي ومؤسس الشركة السابق.. لقد تناغمت تصورات دمينغ حول فريق العمل وتحمل المسؤولية المشترك تماما مع عادات المجتمع الياباني وتقديسه للعمل الجماعي.
كانت هذه جملة الأحداث والمتغيرات التي طرأت على اليابان في ظل الاحتلال الأمريكي لها، فبعد أن كانت دولة قوية تغزو بعنفوانها في كل اتجاه، أصبحت دولة منهزمة خاضعة للاحتلال الأمريكي الذي ضمها إلى دول معسكره الرأسمالي بكل يسر، لتكون أمريكا أول دولة تحتل اليابان من عام 1945 حتى عام 1951. هذه التغيرات لازمها واقع كان له تأثيره البالغ..
نعم.. ربما كان اليابانبيون منغلقين اجتماعيا على عالمهم، إلا أنهم منفتحون على عالم الأفكار والفرص، ولا يدعون فرصة دون الاستفادة منها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.