شاءت الأقدار أن أحضر في الشهرين الأخرين ثلاثة فعاليات أقامتها مؤسسات إنسانية وجهات رسالية مختلفة، تهدف من خلالها الترويج لأعمالها، أو تسليط الضوء على قضايا محقة تمس معاناة الناس وإيصال رسائلهم للمتبرعين والداعمين وصناع القرار.
ورغم أن القائمين على هذه الفعاليات والمنظمات التي ترعاها وتدعمها لا يمكن أن يشكك أحد في إخلاصهم ولا كفاءتهم ولا نجاحاتهم ولا في رغبتهم في خدمة أهلهم، ولا حتى في إحساسهم الطاغي بالمسؤولية تجاه الأزمات الحاضرة والمتجددة، إلا أن ثمة إشارات في المشهد السائد حاليا في العمل الإنساني تنذر بوجود مشكلة، لاسيما إن كان هذا العمل الإنساني يدور في بيئات صراع هشة ذات احتياجات لا تتوقف.
ومن هذا المنبر، وددت أن أطلق همسات عتب ونصح، تعترف وتشكر بداية بكل الجهد الخارق المقدم، وتنبه إلى بعض جوانب الخلل التي تفسد الإنجاز وتضعف تأثيره، فقد يكون الانغماس في العمل ومتابعة صعوباته عائقا أمام رؤية المشهد كاملا، وقد يكون العمل المضني والتعب الكبير حاجزا عن تلمس بعض الفجوات ومانعا من الانتباه إلى وجود انحراف في البوصلة.
بين ثنائية "الكفاءة" و"الفعالية"، والثنائية المقابلة "المنظمة" والمؤسسة" تبرز أسئلة مهمة تفرض على الجميع وقفات وإجابات شجاعة، هل ما نفعله على المستوى الإنساني صحيح؟ هل هو صواب؟ هل يخدم المجتمع؟
بين ثنائية "الكفاءة" و"الفعالية"
خلال نقاش عميق مع أحد المختصين في الشأن الإنساني طرح تساؤلات هامة حول التوصيف الدقيق لهذه الكيانات وأدوارها الحالية والمنشودة، فقد حققت المنظمات السورية "الكفاءة" في تنفيذ المهام ووصلت إلى شراكات مع جهات عالمية بفترة قياسية، وتمكنت من تحقيق ما تستطيعه من المشاريع الإنسانية بأفضل شكل ممكن وفقا للإمكانيات المتاحة، ولكنها لا تزال تفتقد "الفعالية" في ذات السياق، فهي تابعة وليست مؤثرة في توجيه هذه السياسات الإنسانية نحو الأولى والأجدى والأصوب، كما أن مسارات عملها مرتهنة بسياسات الدعم وليست صانعة لها، وهذا ما يجعلها في موضع "المنظمة" الكفؤة في أحسن الأحوال وليست في مقام "المؤسسة" صاحبة الرؤيا التي تستطيع أن تتحكم بقرارها وتوجيه مشاريعها نحو الاتجاه " الصائب".
وبين ثنائية "الكفاءة" و"الفعالية"، والثنائية المقابلة "المنظمة" والمؤسسة" تبرز أسئلة مهمة تفرض على الجميع وقفات وإجابات شجاعة، هل ما نفعله على المستوى الإنساني صحيح؟ هل هو صواب؟ هل يخدم المجتمع؟ هل يتوافق مع الدور المنوط بهذا الكيانات؟ هل يدعم التنمية بالشكل المطلوب؟ هل يحقق حالة تمكين حقيقي للمجتمع أم أنه يتغول على قطاعات أخرى؟
وإلى جانب ذلك، لا تزال هذه المنظمات تفتقد للشرعية والقبول من الجمهور الذي تعمل لأجله، وهي مرحلة متقدمة في العمل المؤسسي لا يمكن امتلاكها إلا بعد امتلاك كل من الكفاءة والفعالية، كما أن التمكين الذي ترفع شعاره يقتضي أن تنتقل هذه المنظمات من موقع العمل لأجل الآخرين إلى موقع العمل معهم، وإشراكهم الحقيقي والفعال في التخطيط للمستقبل فهذا هو جوهر التمكين.
لقد سبحت بعض هذه المنظمات مع التيار وليس ضده، ودخلت في مساحات جديدة لم تكن على خارطة اهتمامها وتخصصها، ولم تكن لتدخلها لولا أن نهر الدعم الجاري انحرف إلى هذه القنوات الفرعية وفقا لرغبة الداعمين، وفي الوقت الذي كان من المفترض أن تكون هذه المنظمات أوعى وأكثر حذرا وقدرة على ضبط مسارها نحو أهدافها ورؤيتها، وكان تركيزها على اكتساب ثقة الداعم أكثر من اهتمامها ببناء شرعيتها في الأوساط التي تعمل بها وهو ما شوش صورتها الذهنية وجعلها عرضة للهجوم والاستهداف.
ظاهرة منظمة "الرجل الواحد" ظاهرة عامة في الساحة السورية، وهي تختصر الجهد المؤسسي للفريق بالمدير ولن أسميه هنا "القائد"، فتختصر المنظمة ب "فلان"، وترتبط باسمه عضويا، وتنسب النجاحات إليه كما في نمط الشركات الخاصة، ويظل "فلان" على كرسي الإدارة لسنوات
أداء متذبذب وتحسن بطيء جدا
لقد نمت مؤسسات العمل الإنساني لاسيما السورية منها استجابة للأزمة والاحتياج، وتوسعت في ظروف عمل غير مستقرة، وسنوات طويلة من العمل تحت الطوارئ، تعثر بعضها خلال الطريق وتوقف، واستمر بعضها عندما تمكن من استيعاب الاحتياج والتفاعل معه تطويرا وتنظيما.
إلا أن ظاهرة منظمة "الرجل الواحد" ظاهرة عامة في الساحة السورية، وهي تختصر الجهد المؤسسي للفريق بالمدير ولن أسميه هنا "القائد"، فتختصر المنظمة ب "فلان"، وترتبط باسمه عضويا، وتنسب النجاحات إليه كما في نمط الشركات الخاصة، ويظل "فلان" على كرسي الإدارة لسنوات، لا بديل عنه ولا يمكن استبداله، وتظل المنظمة تسير بنفس الرتم ونفس العقلية دون أن يطرأ عليها أي ابتكار أو أي جديد.
قد يعتقد البعض بأن هذا ميزة استحقها " فلان" بنجاحه، وينسى أن مهمة القطاع المدني الذي تنتمي المنظمات إليه تأهيل الكوادر وتدريبها، ولا أنكر أن هذا القطاع يؤهل الكوادر ويدربها، ولكن في مستويات الإدارة الدنيا، أما في مستويات الإدارة العليا فنفس الوجوه تتكرر منذ سنوات، ونتيجة لهذه السياسة غالبا ما تتضعضع المنظمة عندما يغيب "فلان" عن المشهد، أو تنهار عندما يتم إزاحته بالقوة لأنه يؤمن بأن ما حققته المؤسسة من نجاح هو نتيجة جهده وبراعته الإدارية فقط.
ولعل الانتقاد الأهم والأكثر تداولا لجهود العمل الإنساني السوري هو افتقاده للشفافية وضعف آليات المساءلة، ولا تعني الشفافية هنا تقديم إجمالي لمبالغ التبرعات المستلمة سنويا وعدد المستفيدين منها، وإنما القدرة على تبرير الأرقام والتوجهات وإظهار إحصائيات شفافة وتقييمات دقيقة لتفاصيل العمل ونسب الهدر، وتقديم الأسباب والدوافع والمعلومات الدقيقة وراء اتخاذ بعض القرارات والسياسات، والاعتراف بالخطأ عند حدوثه، وقبول النقد ومحاولات تصحيحه بدلاً من تقديم الأعذار، والتواضع في التعامل مع الآخرين والتجاوب مع استفساراتهم.
لقد حاولت بعض المنظمات المبالغة في تقييم جهودها، والمبالغة في صناعة النجاح والتسويق له، فهي الأكبر والأقدر والأسرع والأكثر إنجازا والأوسع انتشارا، دون وجود معايير دقيقة وضابطة لعملية تقييم حقيقي، ودون أن يتم التطرق إلى تقييم أثرها وقدرتها على تغيير الواقع، وهو ما تورطت فيه غالبية المنظمات العاملة في هذا المجال حتى الدولية منها، وبهذه السياسية الحالية فإن التركيز المبالغ على استعراض الكيان ومنتجاته هو من سياسات القطاع الربحي، في وقت يفترض أن يتم التركيز على الكفاءة والشرعية والصوابية والأثر والتغيير.
لقد أفسح العمل الإنساني لقياداته الفرصة للقاء السفراء والوزراء والمشاركة في المؤتمرات الدولية، وتمثيل شريحة واسعة من الناس في المحافل ونقل وجعها والمحافظة على مطالبها وعلى كرامتها وعلى تضحياتها، وهو أمر بالغ الصعوبة لا يقدر عليه إلا القوي الأمين
سوق التجارة "الإنسانية"
لقد حمل العمل الإنساني بسياساته الحالية عاملين إضافيين أعطيا أصحابه مساحات إضافية من التأثير، وهما المال والسياسة، وعلى الرغم من مبادئ الحياد السياسي الناظم للعمل الإنساني، لا يمكن تجاهل مساحات التأثير السياسي التي يشغلها العاملون الإنسانيون تحت بند الديبلوماسية الإنسانية، وإشراك القطاع الثالث وإقحامه كفاعل مؤثر في أروقة السياسة ودهاليزها، وبالتالي امتلكت قيادات العمل الإنساني مساحات السلطة والنفوذ إضافية مختلفة عن البقية، وحملت مسؤولية أخلاقية مضاعفة تلزمها تفضيل مصالح من تمثلهم على مصالح المنظمة أو القطاع ،والتنحي في بعض الأحيان لمن هو أكفأ وأجدر لشغل هذا الفراغ وإدارته بشكل فعال.
لقد أفسح العمل الإنساني لقياداته الفرصة للقاء السفراء والوزراء والمشاركة في المؤتمرات الدولية، وتمثيل شريحة واسعة من الناس في المحافل ونقل وجعها والمحافظة على مطالبها وعلى كرامتها وعلى تضحياتها، وهو أمر بالغ الصعوبة لا يقدر عليه إلا القوي الأمين الذي يعرف متى وكيف يثبت أو يتنازل أو يشارك أو ينسحب.
أما بالنسبة للمال، فقد أدى الاحتكاك مع المتبرعين الأثرياء، والدخول في سوق الرواتب الدولي إلى انفصال هذه الشريحة من العاملين عن جمهورها، وتفوقها عليهم من الناحية المادية ومن ناحية الرفاهية، وتظهر هنا إشكالية أخلاقية حول هذه الفجوة في الرواتب ومستوى المعيشة، وهذه الرفاهية التي تقتضيها السفرات والندوات والمؤتمرات في الفنادق ذات النجوم الخمسة، والخدمات الإضافية والسياحية المرتبة على الهامش، وتظهر معها مخاوف جادة من أن يتحول أفراد هذه الشريحة إلى " تجار أزمات" ينتفعون باستمرار المعاناة بدل إنهائها.
إن هذا التفاوت المعيشي بين شريحة العاملين في الشأن الإنساني، وشريحة المستفيدين من هذا العمل، وهذا الهدر والبذخ والاستعراض غير المبرر في فعاليات التسويق والإعلام والمؤتمرات الموجهة للمتبرعين، يعيد طرح السؤال الأخلاقي حول صوابية سياسات العمل الإنساني الحالية في وقت يتراجع فيه الدعم ويتزايد فيه الاحتياج.
أعرف أن هناك الكثير من الأجوبة الجاهزة والمعدة سلفا لأسئلتي، ولكني هنا أعيد النصح والتذكير في هذه السطور على أهمية طرح الجانب الأخلاقي وضرورة إجراء المراجعات والشجاعة في مواجهة الأخطاء، فالقائمون على هذا العمل رغم سيرتهم العطرة ونجاحهم الواضح، هم بشر كالجميع يعتريهم العجب والغرور والتبرير، وقد يدخل الشيطان من مداخل شهوة المال والسلطة والنجاح ليقدم التبريرات الكثيرة التي تسكت هذه الأسئلة وتكتمها، سدد الله طريقي وطريقكم إلى ما فيه خير للبشر ورضاء لرب البشر.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.