شئنا أم أبينا فقد فرض طوفان الأقصى على العالم أن يكون منخرطا في أحداثه وآثارها، فمن لم يكن جزءا من الحدث فهو متأثر بصورة من صور تأثيره أراد ذلك أو لم يرده، فقد بات للمعركة آثارها في صناعة الرأي العام عالميا، وفي دفع الحكومات الغربية ضريبة سياساتها ومواقفها أمام شعوبها المتضامنة مع المجزرة الجارية، وفي فضح كثير من منظومات الحكم في بلادنا.
أما الصادقون من أبناء أمتنا فقد أمسى واحدهم في أحد حالين؛ إما أن يكون ملتحما مع عدوه يجاهده في مختلف الميادين، أو منشغلا بالإعداد تحضيرا للمواجهة التالية، باذلا غاية وسعه في مختلف صور الإعداد المطلوبة منه، وإلا كان مع القاعدين! ﴿وَلَوۡ أَرَادُوا۟ ٱلۡخُرُوجَ لَأَعَدُّوا۟ لَهُۥ عُدَّة وَلَـٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنۢبِعَاثَهُمۡ فَثَبَّطَهُمۡ وَقِیلَ ٱقۡعُدُوا۟ مَعَ ٱلۡقَـٰعِدِینَ﴾ [التوبة: ٤٦].
كان المعنى اللغوي للطوفان ينطوي على معان دقيقة؛ أبرزها الشمول والاستغراق، حيث جاء في المعجم الوسيط: الطوفان من كل شيء ما كان كثيرا أو عظيما من الأشياء أو الحوادث بحيث يطغى على غيره.
كلتا الحالين؛ الخروج والإعداد، تعبران عن استنفار الأمة في مواجهة ما يكاد لها وفي دفع من يعتدي عليها. وإذا استعرنا لحالة المواجهة الالتحامية مصطلح (طوفان الخروج)، فإننا يمكن أن نولد للحال الأخرى مصطلح (طوفان الإعداد)؛ والذي نعني به أن تنصب الجهود الجماعية في عملية تحضير ممنهج للأمة؛ شمولية تكاملية تراكمية، وأن ينخرط كل مسلم من موقعه وبمقدار استطاعته في المعركة بصورة من الصور.
ولما كان المعنى اللغوي للطوفان ينطوي على معان دقيقة؛ أبرزها الشمول والاستغراق، حيث جاء في المعجم الوسيط: الطوفان من كل شيء ما كان كثيرا أو عظيما من الأشياء أو الحوادث بحيث يطغى على غيره، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الطوفان أمر من الله طاف بهم، ثم قرأ: ﴿فَطَافَ عَلَیۡهَا طَاۤىِٕف مِّن رَّبِّكَ وَهُمۡ نَاۤىِٕمُونَ﴾ [القلم: ١٩].
من هنا فإن طوفان الإعداد يجب أن يستغرق جميع الميادين ويشمل كل المستويات؛ فهو يستوعب المجالات المادية ولا يغفل الأبعاد الروحية، ويتناول سائر المجالات ولا يتجاوز أدق الاختصاصات.
ينطوي مفهوم طوفان الإعداد أيضا على معنى الإبداع والحركة خارج المألوف، لا سيما أن كثيرا من الأدوات والوسائل والأساليب قد أخفقت في الماضي وتم تجريبها مرارا، فوجب أن يكون الإعداد ابتكاريا وليس تكراريا.
ويذكر البقاعي رحمه الله في تفسيره بأن الطوفان في الأصل يقال: لكل فاش طام محيط غالب ممتلئ كثرة وشدة وقوة. فهذه الصفات التي ذكرها البقاعي تكسب أي طوفان زخما من الفشو والامتلاء والإحاطة والغلبة. لذا فإن طوفان الإعداد يمثل تجريفا واسعا في عالم الأفكار وفي عالم السلوك، فهو أشبه بتسونامي يقضي، في ميدان الإيمان على المعتقدات الباطلة والشبهات الزائفة، وفي ميدان الفكر على المفاهيم المغلوطة والتصورات السطحية، وفي ميدان السلوك على التصرفات الانفعالية والممارسات الارتجالية، ليكشف بعد هذا التجريف عن محجة بيضاء؛ يترسخ فيها الإيمان وتتقوم فيها الأفكار وينضبط بها السلوك.
وينطوي مفهوم طوفان الإعداد أيضا على معنى الإبداع والحركة خارج المألوف، لا سيما أن كثيرا من الأدوات والوسائل والأساليب قد أخفقت في الماضي وتم تجريبها مرارا، فوجب أن يكون الإعداد ابتكاريا وليس تكراريا.
ويشير الثعالبي رحمه الله إلى المعنى الدقيق الذي نريده هنا من خلال تعريفه الطوفان بأنه العظيم الطامي، وأنه يطلق على كل طام خرج عن العادة من ماء أو نار أو موت. فطوفان الإعداد إذا ليس عملا تقليديا ولا جهدا اعتياديا، بل مشروعا خارجا عن العادة من حيث الفكرة النظرية والخطة التنفيذية والهمة الميدانية.
وتحضرني في هذا المعنى قصة الصحابي الثائر أبي بصير رضي الله عنه الذي لم تكبله الظروف السياسية والاتفاقيات التي أبرمها النبي صلى الله عليه وسلم مع المشركين، ففكر خارج الصندوق وابتكر منهجية حرب العصابات وأبدع أسلوب الكمائن والغارات، حتى انتصرت فكرته وتحققت أهداف ثورته على المشركين الذين اضطروا لإلغاء البند الذي يمنع من أسلم من قريش أن يلجأ إلى النبي صلى الله عليه وسلم. لقد كان في إمكان أبي بصير أن يتراجع عن قضيته بذريعة الظروف السياسية أو أن يتخلى عن فكرته وإعداده بدعوى القيود الأمنية، لكنه فكر خارج الصندوق وألهمه الله هذا الإبداع الحركي الذي غير من خلاله المعادلة السياسية في ذلك الوقت، وهذا ما يجب وعيه في طوفان الإعداد اليوم.
الأصل أن يكون طوفان الإعداد هادرا في كل وقت وتحت أي ظرف. بل ربما كان العمل عند انخفاض وتيرة الضغوط الأمنية والإعلامية والاقتصادية مريحا ومركزا بصورة أكبر من أوقات الشدة والاستنفار.
ويحسن في طوفان الإعداد كذلك، ألا يكون مرتبطا بوجود الأزمة أو حلول النازلة، بمعنى أن تستنفر الأمة لمشاريع الإعداد عند اشتداد المواجهة، ثم ترجع للفتور مع تراجع حدة المعركة، وبالتالي يكون الإعداد مجرد حالات انفعالية مؤقتة وليس مشاريع إستراتيجية منظمة. صحيح؛ لا بد من الاستفادة من ارتفاع منسوب العاطفة الوجدانية وانجلاء الوعي الفكري عند الأزمات، في تكثيف العمل وحرق المراحل.
لكن الأصل أن يكون طوفان الإعداد هادرا في كل وقت وتحت أي ظرف. بل ربما كان العمل عند انخفاض وتيرة الضغوط الأمنية والإعلامية والاقتصادية مريحا ومركزا بصورة أكبر من أوقات الشدة والاستنفار.
كما أن طوفان الإعداد في مفهومه يقتضي وعيا بأولوية ميادين الإعداد، وبصيرة بأساليبه المعاصرة، ونباهة في منهجية تطبيقه والتربية عليه، وتركيزا في المعارك الحقيقية بعدم هدر الطاقة الغضبية على المعارك الجانبية.
ويقتضي أيضا رأب الصدوع بين تيارات العمل وحركات التحرر وفصائل المقاومة لتعزيز الأخوة الإسلامية وإعادة ضبط البوصلة الحضارية، وبالتالي توجيه الطاقات في وجوه أعداء الأمة من الطغاة المستبدين والغزاة المحتلين، بدلا من استنزافها في المناكفات البينية والمنافسات السلبية.
وليعلم أن طوفان الإعداد مدعاة لاستنفار الأعداء وترصدهم، إذ إن كل جهودهم عبر القرن الماضي كانت منصبة على إبقاء الأمة في حالة الركود والغثائية، ومركزة على وأد أية يقظة حركية أو دعوة واعية، تعيد إحياء الأمة الإسلامية وتستخرج مكنوناتها وطاقاتها وتجمع أبناءها وتوحد صفوفهم، لذا وجب التسلح بالإرادة الجادة لتجاوز العقبات المتوقعة، وبالتخطيط السليم لضمان جني الثمار المرجوة، وبالحيطة الأمنية الميدانية والإلكترونية في سبيل الحفاظ على الإنجازات والمكتسبات؛ وهذا هو حقيقة مفهوم طوفان الإعداد.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.