أشعر بعتاب الأصحاب والأصدقاء على غياب تفاعلي على وسائل التواصل الاجتماعي مع ملحمة غزة الكبرى، وكثير منهم ممن يعرفني أيام الصبا وفورة القلب ويعرف تفاعلي واشتباكي مع قضية فلسطين وغزة تحديدا، قبل أن تطرق الحرب أبواب منزلي وتقتحم عالمي وتغريني بحكمة الكبار الشياب.
هل كان لدى الجميع دفاتر مثلي يدونون بها أهم أحداث قطاع غزة وأبرز شخصياتها ومعالمها كما فعلت؟ يقصون الصور من المجلات والجرائد ويعيدون ترتيبها في لوحة فنية
ربما تكون الحقيقة أنني لم أنشر عن غزة، لأنني أشعر أنها مسألة شخصية جدا ذاتية لحد بعيد. وأكثر من هذا، أنا في الواقع أشعر بالغيرة عندما أسمعهم يتداولون أسماء أحياء غزة هكذا ببساطة. يقولون حي الزيتون، هل يرون فيه ما أراه؟ مقاومين ملثمين يتحلقون ويتلون كتاب الله، صواريخ قسامية تكسر جدار الصمت وتفتح كوة أمل في عالم يائس. ماذا عن جباليا؟ منازل متلاصقة كانت خياما شاهدة على تهجير الأجداد وفتية صغار سيصبحون رجالا مقاومين، مخيم جباليا يشبه العنقاء، لا يفنى بل يولد من جديد كل مرة وكل حين. هل يتذكرون أحمد ياسين والصغار متحلقين حوله عندما ينقلون أخبار مخيم الشاطئ؟ في كل زاوية من غزة لي ذكرى.
لا أعرف كيف مرت على الناس أحداث مثل فوز حماس بانتخابات 2006 وسيطرتها على قطاع غزة بعد ذلك وحرب 2008-2009، لكنها بالنسبة لي جزء أساسي من تكويني ومعرفتي وذاكرتي وتربيتي. أول صورة للحرب في ذاكرتي هي صورة عشرات الشهداء من عناصر الشرطة في أول حرب لإسرائيل ضد القطاع. هل كان لدى الجميع دفاتر مثلي يدونون بها أهم أحداث قطاع غزة وأبرز شخصياتها ومعالمها كما فعلت؟ يقصون الصور من المجلات والجرائد ويعيدون ترتيبها في لوحة فنية، قبل أن يقتحم شبيحة نظام الأسد غرفتنا الصغيرة ويبعثروا أوراق القضية في كل مكان؟ هل هناك من كتب على حقيبته الزهرية "save gazza" وجمع حوله الطلاب ليحكي لهم عن غزة في بيئة لا تعرف ما غزة إلا ما يتماهى إلى آذانهم من نشرات أخبار متفرقة يتابعها الآباء بيأس مألوف.
ما الذي يعرفه العالم عن الخوف في مملكة الرعب سوريا؟ حامية فلسطين وحليف المقاومة العنيد. أذكرني فتاة يافعة تتجول في معرض الكتاب في دمشق لعام 2009 أسترق كتابا يحكي عن حماس، وآخر عن محاولة اغتيال خالد مشعل، وثالث عن مذكرات الشيخ أحمد ياسين. شعرت أنني أفتح القدس إذ أقتني هذه الكتب وكأنها جريمة كاملة الأوصاف. أذكر شجاعتي وأنا أزين جدران المدرسة بخريطة فلسطين وأضيف سياجا يخنق القطاع، وأكتب عن يسارها شعر تميم البرغوثي متغزلا بغزة، أيام كنا نسمع لتميم، ونحفظ شعر تميم! يأتي إلي أطفال الحارة والعائلة لأساعدهم في مشروعهم المدرسي، فأرسم لهم علم فلسطين وخريطة فلسطين وأحرص ألا يخلطوا بين علم فلسطين وعلم حزب البعث، أرفق العمل بالأشعار والآيات والأقوال المأثورة. أشعر بالرضا ثم أكتم سؤالا شاردا: هل أرتكب جرما؟ أقنع نفسي بسلمية ما أفعل وأخترع إجابات لأسئلة المحقق في فرع فلسطين: أنا لا أعرف شيئا عن فلسطين إلا ما تعلمته في درس القومية!
لم أنشر عن غزة، أنا لست منبرا صحفيا ولست "Public figure"، اعتزلت الانستغرام وحذفت التطبيق لا أريد مشاركة "reels" مؤثرة لأطفال يموتون وعائلات تجوع وأسمي هذا تضامنا
قبل أن يضيء عالمنا العربي وتصبح مدننا نجمات لامعة بثورات الحرية، كانت غزة دائما غرة الزمان درة متلألئة. وكنت أنا فتاة صغيرة تفتقد وطنا ولا تجده، تتلمس الطريق لتشعر بالانتماء لأمة وقضية، فاتخذت لها من غزة وطنا أحبته وسكنت إليه. اليوم، دمر الشبيحة مدينتي واستحلوا عاصمة البلد الذي ولدت فيه، فتشوشت ذاكرتي، لا أعرف ما الذي بقي وما الذي ذهب وما الذي يفصل الخيال عن الواقع عما كان وما بقي، لكن صورة غزة تشكلت بإرادتي وعلى طريقتي وفي ذاكرتي قصة وطوبة، فمهما دمر الاحتلال وعاث فسادا تبقى في ذاكرتي محتفظة بجلالها الأول.
لكن اليوم، أعني منذ ستة أشهر تعرفت أكثر على وجه جديد لغزة، وجهها الإنساني المرح المقبل على الحياة، التفاصيل اليومية العادية لأي عائلة، بعد أن عرفت قبلا غزة المنارة والجهاد. كنت أرى في غزة الأمل لنا جميعا، لكن في الحرب رأيت الأمل داخل غزة رأيت شعبا يحب الحياة، رأيت تفاصيل العلاقات الجميلة الصغيرة بين العائلات والأفراد، قرأت ذكرياتهم وأحلامهم التي أودعوها بيوتهم قبل فراقها.
لم أنشر عن غزة، أنا لست منبرا صحفيا ولست "Public figure"، اعتزلت الانستغرام وحذفت التطبيق لا أريد مشاركة "reels" مؤثرة لأطفال يموتون وعائلات تجوع وأسمي هذا تضامنا. لا تسعفني الكلمات لأكتب ولا أجد لغة لأحكي عن أحداث وأهوال لا ينفع معها إلا الفعل والثأر. أخجل أن أقول إن شعبا أعاد القضية سيرتها الأولى بدمه ودم أطفاله، أكره أن أقول إن الشهداء كانوا جسرا لعبور القضية لمستويات ومجالات أرحب وأوسع.
كانت علاّقة المفاتيح الخاصة بي تحمل علم فلسطين، احتفظت بها خمس سنوات بعد أن ودعت منزلي في سوريا للمرة الأخيرة
هذه تدوينة عن الذكريات المحترقة وآمال جيل تاه بين مطرقة الاحتلال وسندان المستبد، كانت أمي تقول عندما كانت تجدني أترقب أخبار غزة (على الواقف): صرلهم ستين سنة، بعين الله! أجيال تحمل ندبة النكبة، كل حرب وكل جرح جديد هو تكرار للماضي. لا أريد اعتياد الحرب ولا الظلم، أريد أن نخطو خطوة إلى الأمام بوجه المحتل والمستبد، لكني أفتح جهازي فأسمع طفلا يحكي "كيف طخوا إمه ببطنها وهي حامل" فتخبوا في نفسي الرغبة في الحياة وأنزوي وأترك الطريق لمن يطيقه.
كانت علاّقة المفاتيح الخاصة بي تحمل علم فلسطين، احتفظت بها خمس سنوات بعد أن ودعت منزلي في سوريا للمرة الأخيرة، ثم ألقيته بعيدا وعجبت من سخرية القدر ومن تشابه المصائر. العودة حق، لكننا لن نعود ونفتح الباب بمفتاح قديم، وإن كان ثمة مستقبل فسيحتاج مفاتيح جديدة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.