يلفتني استعمال القرآن الكريم في سياقات المحن والأزمات لا سيما في سورتي آل عمران والتوبة لمصطلحين متقابلين هما القعود والخروج، فالخروج: حالة انخراط المؤمنين في شعيرة الجهاد في سبيل الله قولا وفعلا بأموالهم وأنفسهم، وهي حالة إيمانية وصورة تعبدية يزكيها القرآن الكريم ويرفع من شأنها. وفي مقابل ذلك القعود: الذي يتمثل في حالة ركون إلى الدنيا وتخل عن الجهاد في سبيل الله، مع تلبس بالمكابرة وتعلل بالأعذار المختلفة، وهي حالة ملازمة للمنافقين الذين ملأت الدنيا قلوبهم، ففرحوا بجبنهم وتخلفهم، وكرهوا أن يظفروا بشرف الجهاد في سبيل الله ﴿فَرِحَ ٱلۡمُخَلَّفُونَ بِمَقۡعَدِهِمۡ خِلَـٰفَ رَسُولِ ٱللَّهِ وَكَرِهُوۤا۟ أَن یُجَـٰهِدُوا۟ بِأَمۡوَالِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَقَالُوا۟ لَا تَنفِرُوا۟ فِی ٱلۡحَرِّۗ قُلۡ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرࣰّاۚ لَّوۡ كَانُوا۟ یَفۡقَهُونَ * فَلۡیَضۡحَكُوا۟ قَلِیلࣰا وَلۡیَبۡكُوا۟ كَثِیرࣰا جَزَاۤءَۢ بِمَا كَانُوا۟ یَكۡسِبُونَ * فَإِن رَّجَعَكَ ٱللَّهُ إِلَىٰ طَاۤىِٕفَةࣲ مِّنۡهُمۡ فَٱسۡتَـٔۡذَنُوكَ لِلۡخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخۡرُجُوا۟ مَعِیَ أَبَدࣰا وَلَن تُقَـٰتِلُوا۟ مَعِیَ عَدُوًّاۖ إِنَّكُمۡ رَضِیتُم بِٱلۡقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةࣲ فَٱقۡعُدُوا۟ مَعَ ٱلۡخَـٰلِفِینَ﴾ [التوبة 81 – 83].
إن القعود فضلا عن كونه خلل في الاعتقاد وكبيرة من الكبائر وجريمة في الأخلاق، فهو كذلك خلل منهجي يرتكبه القاعدون الذين ينتقدون خيارات المجاهدين، ويحملونهم آثار الابتلاء الناجمة عن جهادهم
والقعود الذي يرتكبه فريق من الناس ليس مجرد تنكب عن الواجب، وتعبير عن ضعف الإيمان، بل إنه ينطوي على جريمة أخلاقية هي الخذلان المرير للفئة التي خرجت، فتحملت أعباء الخروج في سبيل الله. ومن أصعب المواقف شدة وألما، أن يخرج للمواجهة والالتحام فريق من المؤمنين الصادقين ثم يتعرضوا للشدة والقتل والإصابة، تحت نظر وسمع القاعدين الذين لا ينصرون خارجا ولا يحركون ساكنا، بل يجمعوا إلى خذلانهم، شماتتهم وتكبرهم بادعاء السياسة والكياسة وتقريع المؤمنين العاملين! أليس هذا ما يجري اليوم في غزة؟ وما جرى ويجري كل يوم في بلاد المسلمين المختلفة؟
إن هذا القعود فضلا عن كونه خلل في الاعتقاد وكبيرة من الكبائر وجريمة في الأخلاق، فهو كذلك خلل منهجي يرتكبه القاعدون الذين ينتقدون خيارات المجاهدين، ويحملونهم آثار الابتلاء الناجمة عن جهادهم، ويمارسون في حقهم وصائية مقيتة، زاعمين أنهم أهل حكمة وسياسة وتدبير وأن إخوانهم أصحاب تهور وسوء تخطيط وقصر نظر وانفصال عن الواقع ﴿ٱلَّذِینَ قَالُوا۟ لِإِخۡوَانِهِمۡ وَقَعَدُوا۟ لَوۡ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا۟ قُلۡ فَٱدۡرَءُوا۟ عَنۡ أَنفُسِكُمُ ٱلۡمَوۡتَ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ﴾ [آل عمران: ١٦٨]، وفي موضع آخر: ﴿لَّوۡ كَانُوا۟ عِندَنَا مَا مَاتُوا۟ وَمَا قُتِلُوا۟﴾ [آل عمران: ١٥٦]. ربما لو كان هؤلاء القاعدون عاملين منخرطين في الساحات والميادين، لاستمع لنصائحهم ونوقشت مقترحاتهم حتى لو كانت خاطئة، لكن قعودهم وضح نواياهم وكشف ما انطوت عليه نفوسهم. وحتى لو كانت نية الناصح خالصة فإن قعوده سبب في ضعف فهمه وسوء تقديره لقرارات الخارجين، وقد قال مصطفى السباعي رحمه الله في نظير هذا: مشكلات الطائر وهو يحلق في السماء لا يفهمها إلا طائر مثله.
القرآن الكريم في معرض بيان الحالة المقابلة لهذا القعود، وفي سياق تزكيته للخروج، يؤكد أن الخروج في سبيل الله ليس مجرد ادعاء زائف لا تصدقه الأعمال، بل لا بد أن تصاحبه إرادة حقيقة تبرهن على عزم صاحبها الخروج
ثم إن القرآن الكريم في معرض بيان الحالة المقابلة لهذا القعود، وفي سياق تزكيته للخروج، يؤكد أن الخروج في سبيل الله ليس مجرد ادعاء زائف لا تصدقه الأعمال، بل لا بد أن تصاحبه إرادة حقيقة تبرهن على عزم صاحبها الخروج، بمعنى أنه لو حيل بينه وبين الخروج فلا بد أن يرى متلبسا بالإعداد، متجهزا في أحد ميادينه، متحريا المواضع التي يجب أن يكون فيها، منتهزا لكل فرصة تلوح في الأفق ﴿وَلَوۡ أَرَادُوا۟ ٱلۡخُرُوجَ لَأَعَدُّوا۟ لَهُۥ عُدَّةࣰ وَلَـٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنۢبِعَاثَهُمۡ فَثَبَّطَهُمۡ وَقِیلَ ٱقۡعُدُوا۟ مَعَ ٱلۡقَـٰعِدِینَ﴾ [التوبة: ٤٦]. ولقد عبر النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الجاهزية المستمرة وهذا التأهب الدائم بصورة بديعة فقال: "خير ما عاش الناس له رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله، كلما سمع هيعة أو فزعة طار على متن فرسه، فالتمس الموت والقتل في مظانه"، فتأمل لفظة (طار) التي تبين لك الحالة النفسية لهذا الرجل، وتكشف لك عن مستوى الإعداد الذي وصل إليه لدرجة أن ينطلق للخروج في سبيل الله بهذه الحركية والفاعلية والسرعة.
وبناء على ذلك فالمؤمن دائم التلبس بأحد حالين لا ثالث لهما، إما أن يكون خارجا في سبيل الله ملتحما مع عدوه يناجزه ويجاهده في الميادين المختلفة، وإما أن يكون منشغلا بإعداد نفسه تحضيراً لذلك الخروج المرتقب، منهمكا في تحصيل غاية وسعه في مختلف أنواع وصور الإعداد المطلوبة منه، فإن لم يكن لا هذا ولا ذلك فهو حتما من القاعدين! وبالتالي فالأمة مطالبة بأن تكون فاعلة متحركة إما في طوفان الخروج أو في طوفان الإعداد، وإلا وقعت في مستنقع القعود وجحيم الركون ﴿وَلَا تَرۡكَنُوۤا۟ إِلَى ٱلَّذِینَ ظَلَمُوا۟ فَتَمَسَّكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنۡ أَوۡلِیَاۤءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ﴾ [هود: ١١٣].
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.