مع طول فترة العدوان الصهيوني على غزة بمرأى ومسمع من العالم كله، وتحييد أي جهد مذكور للمجتمعات المسلمة في تغيير هذا الواقع والمأساة التي نعيشها؛ يبرز السؤال التالي: كيف يمكننا تحويل المشاعر المشتركة بين مسلمي العالم إلى كيان سياسي يعبر عن وجدان هذه المجتمعات، ويضمن حقوقها، ويحقق تطلعاتها وآمالها؟ وذلك في ظل أسر هذه المجتمعات في حدود الدول القومية الحديثة، وارتهان فكرها وآمالها وتطلعاتها في حدود هذه الحدود، دون القدرة على تجاوزها؛ وذلك كنتيجة لعملية التنميط السابقة، أو بفعل قوى القهر بأنواعها وأدواتها.
سعى الدكتور سلمان سيد إلى تقديم رؤية نقدية لواقع النظام الدولي، وقراءة واقع الأمة الإسلامية في سياق هذا النظام، وإبراز الإشكالات التي تعاني منها الأمة باعتبارها حالة شتات، والتي لا يعبر عن مجموع وجدانها أي كيان سياسي ويستفالي.
يتأكد ذلك يوما بعد يوم مع تزايد بروز ملامح الهيمنة الاستعمارية على المجتمعات المسلمة، ومدى هزلية إعلانات الاستقلال والانفكاك عن التاريخ الماضي. في حين أن الواقع يثبت بجلاء حجم استئسار مجتمعاتنا الشامل للقوى الاستعمارية. ليس على المستوى السياسي فقط، بل على المستويات الاجتماعية أيضا؛ فنجد إبعاد كل معاني الإباء والجهاد ونصرة الأخ المسلم ومعاني الإخوة الإسلامية عن الفضاء العام، وإحلال إفرازات الفردانية وقيمها المصاحبة كبديل لذلك، وذلك عن طريق عمليات التحديث على النمط الغربي والتي فرضت على مجتمعاتنا واجتاحتها.
وفي سبيل الانعتاق من الإشكاليات سابقة الذكر؛ نجد العديد من الأطروحات والدراسات النقدية التي تسعى لتقديم حلول وإجابات لهذه الأسئلة، وذلك عبر دراسة الواقع، وتسليط الضوء على الإمكان الكامن في المجتمعات المسلمة، وكيفية استغلال هذا الإمكان في تحسين الواقع والمستقبل. ويعتبر كتاب "استعادة الخلافة: تفكيك الاستعمار والنظام العالمي" للدكتور سلمان سيد أحد هذه الدراسات الجادة.
سعى سيد إلى تقديم رؤية نقدية لواقع النظام الدولي، وقراءة واقع الأمة الإسلامية في سياق هذا النظام، وإبراز الإشكالات التي تعاني منها الأمة باعتبارها حالة شتات، والتي لا يعبر عن مجموع وجدانها أي كيان سياسي ويستفالي. جدير بالإشارة إلى أن المؤلف لا يسعى إلى تقديم حلول عملية يمكن تطبيقها على المدى القصير لحل الإشكالات والأسئلة التي يثيرها، بيد أن الأفكار التي يطرحها في الكتاب تفتح آفاقا للتفكير والنقاش.
يشير سيد إلى أن بروز سؤال علاقة المسلمين بالدولة برز بشكل رئيسي مع سقوط العثمانيين، فقد واجهت دول العالم الإسلامي وقتها سؤال: ما هو النظام السياسي المناسب لهم؟ في ظل المحددات الزمانية والمكانية وقتها. وذلك في ظل سياق معادٍ لكل ما هو إسلامي، وبالتزامن مع إنفاذ مخططات القوى الاستعمارية في المنطقة لخططها السابقة. ورغم أن الحكم العثماني -والذي نصادف هذه الأيام مئوية إعلان انتهائه- عانى في فتراته الأخيرة، إلا أنه مثل كيانا مشتركا يمثل الأمة وتاريخها. وهو ما يستدعي الحاجة لوجود مثل هذا الشعور؛ شعور وجود منظومة تحمل هموم هذه الأمة بعيداً عن أي تحزبات قُطرية. ولا يعني ذلك أن العثمانيين في نهاية أمرهم ضمنوا تحقيق ذلك بالشكل المطلوب. بيد أن وجود مثل هذه المنظومة يضمن عملية الانعتاق من أسر أغلال هموم الدولة القومية الحديثة، كما يسهل التفكير بنمط يستوعب حدود التنوع بين المجتمعات الإسلامية ويتجاوزها لتحقيق الأهداف المشتركة والرئيسية.
فقدان هذه الأهداف المشتركة وعدم القدرة على تحديها أساسا؛ هو الذي تسبب في وصول الأمة الإسلامية اليوم لمثل هذه المراحل من الضعف والهوان. في الواقع، ليست هذه المرحلة نتيجة لمخرجات العقود الماضية فقط، بل نتيجة لفترة طويلة من تراكمات الجهود والأعمال الغربية خاصة مع قضاء القوى الاستعمارية فترة استعمارها المنطقة على جل التمظهرات الإسلامية في الحياة العامة.
واقع إضعاف المجتمعات المسلمة لم يقتصر فقط على الهيمنة على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل تجاوز ذلك ليشمل الحروب المباشرة. فالمسلمون "هم الأهداف الأكثر وضوحاً للعيان في الحرب على الإرهاب؛ وقد تم تجنيدهم ضمن وعي سياسي ناشئ من خلال الحرب اللامتناهية". وهو ما يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن "التحديات التي تواجه المسلمين بصورة جماعية ليست هي دينية ولا ثقافية، بل هي سياسية، وحسمها يمكن إيجاده فقط في سياسة باسم الإسلام." ويتأكد ذلك أكثر بالنظر للواقع العالمي المعاصر، والذي أصبح فيه حضور المسلم أو حتى أفكاره إشكالاً؛ في ظل تشكل العالم وإعادة تشكيله بالاستناد لقيم الحداثة وما بعد الحداثة الغربية. إضافة إلى قيام القوى الاستعمارية بتفكيك قواعد اللغة السياسية الإسلامية الثقافية وتهميشها، وإعاقة تفعيلها بأي شكل من الأشكال، وهو ما أدى في نهاية المطاف؛ إلى صهر كل المؤسسات في المجتمع تحت ظل الدولة، مع تهميش دور المؤسسات الإسلامية الثقافية المستقلة في الحياة العامة، بل ومحاربتها في كثير من الأحيان.
يشير سيد إلى عدم قبول "حراس الديمقراطية" بأي نظام ديمقراطي ذي مظهر إسلامي في الوصول إلى السلطة، ولو وصل للحكم بنفس الآليات الإجرائية المفروضة من قبل الدولة القومية والنظام الليبرالي.
سؤال البديل، ودرس الزمن التالي
الإسلام دين جماعي لا مكان فيه للفردانية، وكينونته تتشكل من الذات الجماعية لهذا المجتمع المسلم، فهذه الأمة أمة الجسد واحد يتألم أحدها ويتوجع بتألم الآخر. يخالف ما سبق، الغالب على واقعنا الحالي، والمتسم بالتماهي مع الأحلام والهموم الجزئية سواء على المستوى الشخصي، أو على مستوى ما يسمى بالوطن بمعناه المصدر. مع عدم إمكانية تجاوز حدود هذه البقع الجغرافية، أو عدم الرغبة بذلك في الأساس. ولا مثال أوضح على ذلك من حربنا المستمرة حتى الآن مع الكيان الصهيوني، على أنه من المهم الإشارة إلى أن واقع المجتمعات المسلمة لا تعكسه نخبها السياسية المتصدرة.
لا يقصد الشارع حين يأمرنا بتعظيم قيمة الأخوة الإسلامية بأن نحصرها فقط في مستوى المشاعر، بل يلزم متابعة تمثيلها على أرض الواقع على شكل مشاريع وأعمال. وفي تأكيد هذا المعنى يقول مالك بن نبي: "لا بد أن تنقل الأخوة الإسلامية من مجرد الشعور إلى إرادة العمل، فكل عمل تضامني لا يؤسس لإرادة هادفة، تسوغها عملية تخطيط هو مجرد حلم".
يقودنا كل ما سبق إلى السؤال عن طبيعة البديل المقترح، وكيفية إنشاء كيان سياسي يمثل المجتمعات المسلمة، وذلك في ظل هذا العالم الذي نعيشه والمتسم بتراتبية القوى العالمية، يقول سيد: "المسلمون الذين يتمنون وجود قوة عظمى خاصة بهم سيحتاجون إلى ابتكار طريقة بديلة أو ستكون هناك حاجة إلى إعادة بناء نظام العالم بطريقة جذرية". يعني ذلك ارتباط الأمر بمحورية العمل على تنشئة ذاتية مسلمة على مستوى الأمة، وضرورة العمل للمستقبل القادم؛ عبر إعداد الجيل، وتهيئته لمهامه القادمة. هذه التنشئة للإرادة المسلمة هي المهمة الجوهرية لأي مشروع يهدف إلى الحركة تجاه قوى إسلامية عظمى. وفي الواقع، لا نستطيع بغير ذلك تفسير قرار ومشاهد ووقائع معركة طوفان الأقصى -نصر الله المجاهدين-.
وجود كيان سياسي يمثل وجدان المجتمعات المسلمة هو الضامن فقط لعيش المسلمين في عالم يتجانس مع مبادئهم وقيمهم، بمعنى أن قدرة المسلمين على الوجود (ذاتا أو جماعة) وقدرتهم "على صناعة تاريخهم الخاص، وعلى إبراز أنفسهم ضمن المستقبل، وعلى ترسيخ شعورهم وإثرائه بهويتهم – من هم الآن وماذا يتمنون أن يكونوا – تعتمد على احتمالية الخلافة (بمعناها الأنطولوجي). بعبارة أخرى، من دون قوة عظمى لإرساء الوجود المسلم في النظام العالمي، سيكون من الصعب حل عدد كبير من المشاكل التي تواجه الأمة." وذلك في ظل معايشة الأمة اليوم للحظة تاريخية تنازلت فيها عن وحدتها وشرعية نظامها السياسي لصالح مشاريع الدولة القومية الحديثة. وعنوان هذه اللحظة التاريخية: الكيل بمكيالين في سبيل الحفاظ على النظام الدولي.
يشير سيد إلى عدم قبول "حراس الديمقراطية" بأي نظام ديمقراطي ذي مظهر إسلامي في الوصول إلى السلطة، ولو وصل للحكم بنفس الآليات الإجرائية المفروضة من قبل الدولة القومية والنظام الليبرالي. بمعنى أكثر دقة "لا يمكن أن تكون ديمقراطياً وأنت تعادي الغرب"، فشرعية الديمقراطية تتناسب طرديا مع قدرتك على موالاة الغرب، والذوبان في النموذج الحضاري المصدر، وعدد الأمثلة التي يمكن أن تقدم كدليل على ذلك كثيرة.
يساعد في عملية إيجاد البديل والإجابة على سؤالنا؛ استحضار وفهم طبيعة الصعوبات الأساسية التي تواجه أي مشروع إصلاحي يحاول تغيير واقع البلدان المسلمة، والمتمثلة في: (1) المقاومة من قبل المستفيدين من الوضع القائم والساعين للحفاظ عليه، (2) إشكال اجترار المدلولات الخاصة بمفاهيم الحرية والديمقراطية من السياق الغربي، وما يتبع ذلك من إشكاليات، (3) عدم القدرة على تقديم بديل حقيقي ومفاهيم بديلة لتطبيق الحكم الصالح.
يعتبر غياب استحضار البعد الأخروي في حياة المسلمين اليوم وما يتبع ذلك من أفكار وتمثلات؛ أحد أهم جوانب الضعف والقصور، والتي تتسبب بحالة الهوان والضعف الذي نعيشه.
وتركيزا على النقطة الأخيرة؛ نجد أن زمن طوفان الأقصى أوضح بجلاء محورية صياغة المفاهيم والمسميات في عملية التغيير وصناعة التصورات الحياتية، وتمتد أهمية هذه النقطة لتشمل حتى تصورتنا عن كيفية تعريفنا بأنفسنا ورؤيتنا للكون والوجود، مع الانتباه لإشكال التماهي والتطبيع مع المسميات غير المعبرة عن وجدان الأمة الإسلامية وثقافتها.
وكما يقول سيد: فعل التسمية في حد ذاته هو فعل الصيرورة. وأن فعل التسمية "هو ممارسة في صناعة التاريخ". وذلك باعتبار أن "الذين لديهم أسماء بإمكانهم فقط كتابة تاريخهم" وأن "أولئك الذين لديهم أسماء بإمكانهم فقط منح أنفسهم مصيرا".
الدعوة لوجود كيان سياسي يمثل الأمة الإسلامية هو "إعلان مفكك للاستعمارية، وهي تذكرة بأن الإسلام هو الإسلام، وبالنسبة إلى المسلمين فإن ذلك هو كل ما يلزمه بأن يكون" كما يؤكد سيد. ويعلمنا التاريخ أن محك التغييرات الجذرية في مساره تبدأ بالإيمان بأن التغييرات والتحولات الكبرى تبدو مستحيلة فقط في لحظة تصورها، وأن هذه التغييرات تستند في أساسها على قدرة الأفراد على رؤية المستقبل من ناحية، وكتابة تاريخ هذا المستقبل من ناحية أخرى.
يعتبر غياب استحضار البعد الأخروي في حياة المسلمين اليوم وما يتبع ذلك من أفكار وتمثلات؛ أحد أهم جوانب الضعف والقصور، والتي تتسبب بحالة الهوان والضعف الذي نعيشه. ولا نجد توصيفا لذلك أدق من قوله صلى الله عليه وسلم (يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن. فقال قائل: يا رسول الله! وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت).
كما نستذكر في نهاية هذا المقال أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة).
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.