تملأ الأفكار عقلي وقلبي، ولكن يعجز بياني عن الإحاطة بها كما ينبغي، أغادر وجدة الآن ولا أستطيع الانتظار كي أدون ما يجول في خاطري عنها، عن وجدة الخير، تلك المدينة التي تقع شرق المغرب، العظيمة برجالاتها وأهلها وبما لها من حضور تاريخي وأصالة حضارية لا تخطئها عين متمثلة في الناس؛ وأخلاقهم، وأسواقهم، ومعاملاتهم، حيث تسود روح المحبة والابتسام.
كانت رحلة علمية كبيرة القدر شديدة النفع كان فيها الكثير والكثير من الأفكار المهمة التي ينبغي البناء عليها والتي ستكون مناط اهتمام كبير منا وممن شاركونا الندوة أو اطلعوا على إنتاجها الفكري والعلمي
جاءت زيارتي لوجدة، المدينة المغربية استجابة لدعوة كريمة من أحد رجالات المغرب المخلصين ومن معه من أصدقائه وصحبه في الاهتمام بقضايا العالم الإسلامي ممن يعملون خدمة للدين والأمة، وذلك للمشاركة في ندوة الثقافة البانية الدولية الرابعة التي جاءت بعنوان "تجارب النهوض ومستقبلات النهضة في الوطن العربي في ظل التحولات والانتقالات الممكنة" خلال الفترة 19 -20 شعبان 1445هـ، الموافق 1-2 مارس 2024م؛ والتي نظمتها مؤسسة النبراس للثقافة والتنمية بالشراكة مع كلية الآداب والعلوم الإنسانية -جامعة محمد الأول، مختبر مناهج العلوم في الحضارة الإسلامية وتجديد التراث- ماستر الصحافة والإعلام الرقمي.
وقد سعدت بالاستجابة للدعوة وزادت حماستي لها عندما علمت بمشاركة مجموعة مباركة من الأساتذة والمفكرين، من مصر وسوريا وتركيا، وبطبيعة الحال من المغرب، وكانت مشاركتي بعنوان "كيف نستعيد ثقافة النهضة ونفسية النهوض؟" وقدر الله أن مررنا بظروف سفر استثنائية، ولكنها كانت بمثابة منحة من الله عز وجل لا توصف ولو قدر لنا اختيارها ما تخلفنا عنها، فقد كانت رحلة علمية كبيرة القدر شديدة النفع كان فيها الكثير والكثير من الأفكار المهمة التي ينبغي البناء عليها والتي ستكون مناط اهتمام كبير منا وممن شاركونا الندوة أو اطلعوا على إنتاجها الفكري والعلمي لقيمته الكبيرة وفاعليتها وما أثارته من إشكالات وأسئلة تستحق الاهتمام والمتابعة والمراكمة.
كل تفاصيل هذه المدينة تختزن عمقا كبيرا، ودلائل حضارية لا تخطئها عين، التعامل الإنساني والراقي وجدناه في كل مكان مررنا به والتقينا فيه بأهل وجدة وسكانها.
وخلال الأيام الثمانية التي قضيناها في وجدة على خلاف ما كان مخططا له بخمسة أيام فقط أحاط بنا أهل وجدة من كل جانب ولم يتركونا إلا بالمقدار الذي نلتفت فيه إلى أشغالنا وأعمالنا، وكانت هذه فرصة كبيرة جدا لأن نتعرف على المدينة بما لها من أصول حضارية وإنسانية ضاربة في عمق التاريخ مبنى ومعنى، عمرانا وإنسانا، علما وخلقا، ففيها جامعة حكومية هي جامعة محمد الأول، ومؤسسات أهلية ومدنية منها جمعية النبراس للثقافة والتنمية، ومراكز بحثية مستقلة كمركز الدراسات والبحوث الاجتماعية والإنسانية، ولها من الأوقاف الأهلية التي تضمن استمراريتها وتحافظ على دوامها.
كل تفاصيل هذه المدينة تختزن عمقا كبيرا، ودلائل حضارية لا تخطئها عين، التعامل الإنساني والراقي وجدناه في كل مكان مررنا به والتقينا فيه بأهل وجدة وسكانها. ورغم أن الرحلة في بدايتها لم تكن تكشف عن مآلاتها خاصة مع رحلة القطار غير المخطط لها، إلا أن لقائنا بأهل المغرب في القطار قد هون علينا السفر فهم لم يبخلوا علينا بدعواتهم الكريمة وابتساماتهم التي تخطف القلوب، وأدبهم الجم، واستعدادهم الفطري للمساعدة، وكانت الأحاديث الجانبية لأهل القطار منذ بدء الرحلة في الدار البيضاء مرورا بالرباط ومكناس وفاس وصولا إلى وجدة قد كشفت لنا عن مشاغل أهل المغرب واهتماماتهم السياسية والاقتصادية والرياضية، وقد تعرفنا على جوانب من الحياة المغربية غير معتادة، ومن الممكن أن تكون رحلات القطار واحدة من الأدوات البحثية التي يمكن أن يعتمدها الباحثون في التعرف على مجتمع من المجتمعات، فمراقبة الناس والاطلاع التلقائي على أحوالهم تفسر الكثير والكثير من أحوال البلاد خاصة وأن رحلة مثل تلك التي مررنا بها اجتمع فيها شرائح متنوعة ومتعددة فيها الكثير مما يمكن ملاحظته وتحليله، إلا أن حفاوة الترحيب ودفء الاستقبال قد أنسيانا ما عانيناه في رحلتنا الشاقة، وقد تعاظم شعورنا بالسعادة والراحة في المغرب عندما وصلنا إلى مدينة وجدة التي سكنتنا قبل أن نسكنها.
كان قد فاتنا من الندوة يومها الأول إلا أن المنظمين عمدوا إلى تنظيم لقاءات مكثفة وفتح الحديث في موضوعات الندوة في جلسات عامة وخاصة، وساد على الأجواء الروح العلمية دون انقطاع، وقد كان موضوع المؤتمر عن تجارب النهوض العربية، ومثل هذا الموضوع قد يتخيل البعض أن لا جديد فيه، أو أنه قتل بحثا كما يقال، إلا أن هذا المؤتمر أثبت العكس تماما، فهناك العديد من المداخل والأطروحات التي قدمت وتناولت جوانب جديدة، أو أوصت بمداخل منهاجية مختلفة يمكن من خلالها تناول جوانب الموضوع من زوايا متعددة تسهم في تقديم رؤى جديدة يمكن لها أن تسهم في تقديم أطروحات ذات قيمة تقدم إضافات خاصة في ظل التحديات التي تواجهها الأمة، وتفرض نفسها على واقعها، بل وفي إطار اللحظة الراهنة التي يراها بعض المتخصصين بأنها اللحظة الفارقة التي يمكن البناء عليها لاتخاذ خطوات عملية في طرح مشروع نهضوي إسلامي عربي من مداخل جديدة تستفيد من الواقع الراهن وتطرح أفكارا فعالة ونافعة.
إن المتأمل المدقق في تأخرنا الحضاري ونكستنا النهضوية يجد أن الأمر ينصرف في تفسيره المركزي إلى سيادة الفرقة وقطع الأواصر وإعلاء قيم الخلاف والافتراق، والسماح للعناصر الخارجية بالتدخل في شؤننا، وغياب الأمل، وافتعال الأزمات والخلافات، والتمسك بالصغائر وتضخيمها، وغياب الميزان والمنهجية العلمية، وغلبة نبرة الاتهام والهروب من المسؤولية، إلا أن هناك أفكار واعدة وأطروحات نفيسة كان من الممكن أن يكون لها مساحة ودور من التفعيل والفعالية، إذا وجدت البيئة البانية الواعية التي ترتبط بالسعي والفعل والتفعيل، لا تلك البيئة المنفعلة المفتعلة التي لا يهمها إلا تحقيق مصالحها الخاصة وتزكية الصراعات والخلافات تحقيقا لمنفعة شخصية ضيقة ومحدودة على حساب قضايا الأوطان والأمة والدين.
لعل اختيار رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم لسيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه في رحلة الهجرة يمثل نموذجا يمكن التفكير فيه والاحتذاء به، فهو لم يستعين في رحلته بالقوى أو المرهوب الجانب ولكن اعتمد على من لديه خبرة اقتصادية واجتماعية مطلوب في بناء الدولة المقبل عليها
فالعمل الحضاري يتطلب الانشغال بالإنسان باعتباره الركيزة الأساسية لعملية النهوض، وبناء الإنسان يحتاج إلى العديد من المقومات التي قد تساعد على الخروج من هذه الدائرية وتكاليفها؛ فمن المهم بمكان التركيز على الرحلة وليس الوصفة كما يؤكد الدكتور حسين القزاز مشيرا إلى أهمية الاعتماد على المنهج العلمي دون أن ننشغل بطريقة معينة للنهوض، وكذلك الانشغال بالوظيفة الحضارية للسنة النبوية وما يمكن أن تقدمه من إسهامات متميزة في هذا المجال وعلى سبيل المثال يحدد الدكتور سيف الدين عبد الفتاح أربعة أحاديث نبوية وهي المعروفة بحديث السفينة، وحديث الفأس، وحديث الفسيلة، وحديث الثغر، كما يحذر الأمة من تبعات ومخاطر حديث الوهن، هذه الأحاديث لها وظيفة برفع وعي الأمة وفهمها لسياقاتها الحضارية والإنسانية ودورها الإنساني وشهودها الحضاري، إضافة إلى ضرورة الاهتمام بما اهتم به النبي صلى الله عليه وسلم والذي عبر عنه الإمام الماوردي بالأمل الفسيح، على اعتبار أنه القاعدة السادسة في إصلاح الدين والدنيا.
ولا يمكن لتلك الرؤى أن تكتمل وتفعل في الواقع إلا بالتفكير الشوري والعمل الإصلاحي الجماعي، وكذلك حسن الاختيار المتعلق بالرجل المناسب في المكان المناسب ولعل اختيار رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم لسيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه في رحلة الهجرة يمثل نموذجا يمكن التفكير فيه والاحتذاء به، فهو لم يستعين في رحلته بالقوى أو المرهوب الجانب ولكن اعتمد على من لديه خبرة اقتصادية واجتماعية مطلوب في بناء الدولة المقبل عليها كما يؤكد الدكتور عبد المجيد النجار، إضافة إلى الاعتناء بما يسميه حامد ربيع كفاحية العالم، والتي كان يقصد بها أن يكون العالم دور في تغيير مجتمعه وقيادته نحو الأفضل، أو ما يمكن التعبير عنه بالعالم العامل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.