خلال شهور طويلة من الحرب على غزة استخدمت إسرائيل ما يمكن تسميته بإستراتيجية الكذب، لتبرير كثير من الجرائم، وطمس كثير من الحقائق، والالتفاف على كثير من المواقف.. الكذب سلاح يستخدمه الساسة والعسكريون الإسرائيليون لتحقيق أهدافهم، وقد استخدموه مع أعدائهم وحلفائهم وحتى مع جمهورهم.
بلغت جرأة نتنياهو في الكذب حد تقديم خطة لصفقة تبادل الأسرى لبايدن، الذي تبناها وقدمها للعالم ليفاجأ بعد ذلك بتراجع نتنياهو عنها
لا يشكل الكذب استثناء في السلوك السياسي الإسرائيلي، بل إن الساسة الإسرائيليين يكذبون باستمرار منذ لحظة التأسيس الذي اعتمد على أكاذيب وأساطير، أبرزها كذبة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".
لكن العالم ظل يتعامل مع هذه الأكاذيب بلامبالاة، ويغض عنها الطرف في أغلب الأوقات. سيتغير هذا الوضع بعد طوفان الأقصى لسببين؛ الأول أن بشاعة ما تابعه العالم في غزة من جرائم جعلت كل تصرفات وتصريحات المسؤولين الإسرائيليين – السياسيين والعسكريين- تحت المجهر، والثاني مرتبط بالأول، وهو أن محاولتهم تبرير هذه البشاعة وهذه المذابح والإبادة الجماعية اضطرتهم لاستخدام كثيف للكذب.
يحكي الصحفي الاستقصائي الأميركي بوب وودورد، في كتابه الجديد الذي عنوانه "الحرب"، أن الرئيس الأميركي جو بايدن اشتكى لأحد أقرب مساعديه في البيت الأبيض من أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يكذب دون توقف.
وحسب وودورد فإن بايدن وصف نتنياهو بالكذاب اللعين، وبالشخص الدنيء، وقال إن ثمانية عشر من أصل تسعة عشر شخصًا يعملون مع نتنياهو كاذبون.. يبدو أن بايدن عانى كثيرًا من كذب نتنياهو وفريقه، وأنه كان يشعر بالإحباط والإهانة، لكنه لم يستطع فعل شيء لأن الأمر يتعلق بإسرائيل.
وقد بلغت جرأة نتنياهو في الكذب حد تقديم خطة لصفقة تبادل الأسرى لبايدن، الذي تبناها وقدمها للعالم ليفاجأ بعد ذلك بتراجع نتنياهو عنها. وبعد تنكر نتنياهو لخطته عادت الإدارة الأميركية إلى تحميل حماس مسؤولية عرقلة الصفقة، ما يؤكد أنها تعامل إسرائيل كطفل مدلل يسمح له بالكذب طول الوقت دون محاسبة أو عقاب، مع استعداد دائم لتحمل عواقب أخطائه وكذبه.
أدركت الصهيونية منذ البداية أن الكذب سلاح فتاك يحقق أهدافًا لا تحققها وسائل أخرى، ويسمح بالتحكم في الرأي العام؛ ولذلك اهتمت بالسيطرة على أكثر وسائل الإعلام الدولية تأثيرًا، ويكفي أن يلقي المرء اليوم نظرة على لائحة من يملكون أو يديرون كبرى وسائل الإعلام الغربية، ليدرك أن الصهيونية تتحكم فيها تحكمًا كاملًا تقريبًا. وقد انعكس هذا على تغطيتها للحرب على غزة، فتعاملت مع أكاذيب إسرائيل أغلب الوقت كحقائق، واستماتت في الدفاع عنها.
استمرّ مسؤولون إسرائيليون في ترديد هذه الأكاذيب بشأن أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول كلما سمحت لهم الفرصة، ورددها معهم إعلاميون منافقون. فالكذب -حتى لو اكتشفه الآخرون- يبقى مفيدًا لتحقيق الأهداف
بمجرد أن بدأت إسرائيل تستفيق من صدمة طوفان الأقصى حركت آلة الكذب؛ فاتهمت المقاتلين الفلسطينيين بقطع رؤوس عشرات الرضع، وحرقهم في الأفران، واغتصاب النساء، وبقر بطون الحوامل. وتؤكد السرعة التي حيكت بها هذه الرواية أن الكذب يخطط له ضمن سياسة واضحة المعالم، وأنه ليس مجرد رد فعل عفوي ناجم عن غضب أو انفعال..
انطلقت آلة الكذب من فم عامل بهيئة طوارئ إسرائيلية، فرددها نتنياهو وزوجته والرئيس الإسرائيلي، ورددها وراءهم الرئيس الأميركي. ورغم أن تحقيقات وسائل إعلام دولية مرموقة أكدت بالأدلة الدامغة زيف هذه الرواية، التي لم تدعمها إسرائيل ولو بصورة واحدة، فإنها حققت الهدف منها، وهو تبرير الإبادة الجماعية التي ترتكبها في غزة.
ولا يهم هنا إن كان أغلب سكان الأرض لا يصدقون إسرائيل، فهي تعمل بمنطق اكذب ولا تبالِ بمن لا يصدقك، ما دام لا يستطيع الوقوف في وجهك ومحاسبتك على كذبك، واستمر في الكذب دون توقف، لأن هناك من سيصدق في نهاية المطاف.
استمر مسؤولون إسرائيليون في ترديد هذه الأكاذيب بشأن أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول كلما سمحت لهم الفرصة، ورددها معهم إعلاميون منافقون. فالكذب – حتى لو اكتشفه الآخرون- يبقى مفيدًا لتحقيق الأهداف، وفرض سردية المظلومية التي تبقى إحدى أهم الركائز التي بني عليها المشروع الصهيوني.
في الأيام الأولى للحرب، قصف جيش الاحتلال مستشفى المعمداني، ما أدى إلى استشهاد خمسمائة فلسطيني.. غرد أحد مستشاري نتنياهو احتفاء بالهجوم، لكنه مسح تغريدته بسرعة بعد أن بدأت الإدانات تتوالى من عواصم عديدة، لتبدأ بعد أقل من ساعة حملة الأكاذيب، وظهر على شاشات كبرى شبكات التلفزيون سياسيون ومتحدثون عسكريون إسرائيليون، اتهموا حماس في البداية بإطلاق صاروخ سقط قرب المستشفى، ثم غيروا الرواية بعد ذلك لاتهام الجهاد الإسلامي.
كان التخبط واضحًا لكن الكذب حقق هدفه، لأن وسائل الإعلام الغربية تبنت الرواية الكاذبة، وظلت ترددها حتى صدقها كثير من الناس، وهذا هو التكتيك المتبع.. يطلق الإسرائيليون الكذبة، فيتلقفها الإعلام الموالي ويرددها كثيرًا، ويدافع عنها حتى يفرضها على المتلقي، ويجعله يتعامل معها كحقيقة، أو على الأقل يُدخله منطقة الشك فلا يتمكن من اتخاذ موقف يدين إسرائيل.
ويظهر هذا بوضوح في رد كثير من الغربيين عندما يسألون عن موقفهم مما تفعله إسرائيل، فيقولون إنهم لا يستطيعون اتخاذ موقف حاسم مما يجري.
استمروا في الكذب بادعاء اتخاذ الاحتياطات لتجنيب المدنيين الأذى وهم يقصفون بيوتًا، يعرفون أن فيها عشرات النساء والأطفال، ويقصفون مدارس تؤوي آلاف النازحين
لم تطلق آلة الكذب الإسرائيلية نيرانها خلال هذه الحرب على جهة أكثر مما أطلقتها على المستشفيات الفلسطينية؛ انطلقت نيران الكذب لتتبعها نيران الطائرات والمدافع، في تكامل لا يتقنه أحد كما تتقنه إسرائيل.
فتحت مستشفى الشفاء بنوا من الخيال مقر القيادة العامة لكتائب القسام، وقدموا للعالم مجسمًا ثلاثي الأبعاد يُظهر المقر كمدينة تحت المستشفى، واتهموا كتائب القسام باستخدام مستشفيات أخرى – منها الرنتيسي وكمال عدوان والإندونيسي- في عملياتها العسكرية.
نفذ متحدثون عسكريون داخل المستشفيات مسرحيات سيئة التأليف والإخراج لإثبات وجود سلاح فيها، ما جعلهم عرضة لسخرية العالم.. لم يجدوا مقر قيادة عامة تحت مستشفى الشفاء، ولم يجدوا سلاحًا في باقي المستشفيات، وتحولوا إلى مادة للسخرية في العالم بسبب رداءة مسرحياتهم، لكنهم لم يهتموا بهذه السخرية، لأن الكذب يدخل ضمن خطة سياسية وعسكرية مدروسة لتبرير ما فعلوه بالمنظومة الصحية في غزة.. حققوا الهدف فعلًا، وهو تدمير المنظومة الصحية التي يعتقدون أنها من أهم عوامل صمود الفلسطينيين وثباتهم في أرضهم، ويعرفون أن استمرارها في تقديم خدمات طبية للفلسطينيين سيُفشل مشروع التطهير العرقي الذي يعد أهم أهداف الحرب غير المعلنة.
واستمروا في الكذب بادعاء اتخاذ الاحتياطات لتجنيب المدنيين الأذى وهم يقصفون بيوتًا، يعرفون أن فيها عشرات النساء والأطفال، ويقصفون مدارس تؤوي آلاف النازحين. واستمروا في الكذب بادعاء السماح بدخول المساعدات إلى غزة وهم يفرضون حصارًا لإخضاع الفلسطينيين بالتجويع.
هل سيشكل طوفان الأقصى نقطة فاصلة بين مرحلة تكذب فيها إسرائيل دون تبعات، وبين مرحلة يصبح لهذا الكذب فيها عواقب – على الأقل بالنسبة لصورتها- لدى الرأي العام الدولي؟
لا يهم هنا أن يكشف خبراء عسكريون أن لدى جيش الاحتلال آلة استخباراتية وتقنيات دقيقة، تمكنه من معرفة من يوجد داخل البنايات التي يقصفها، ولا يهم أن تكشف منظمات الإغاثة أن إسرائيل تكذب، وأنها تمنع دخول المساعدات، وتجوِّع الفلسطينيين ضمن خطة سياسية مدروسة. إن سيل الكذب لن يتوقف ما دام يؤدي وظيفته ويحقق الأهداف، وما دامت الحماية مضمونة من إعلام غربي متواطئ، وحكومات غربية توفر الحماية والدعم.
تدرك إسرائيل أن هذا الاستعمال الكثيف للكذب بعد طوفان الأقصى خرب صورتها، التي بذلت الصهيونية جهودًا مضنية لرسمها في العالم، واعتمدت في ذلك بشكل كبير على سردية المظلومية.
فقد ضُربت هذه السردية في مقتل، وتحولت إسرائيل لدى قطاع واسع من الرأي العام الدولي من مظلوم إلى ظالم. ومع ذلك تستمر في الاعتماد على إستراتيجية الكذب، لأنها مطمئنة إلى أن آلة الدعاية الصهيونية الجبارة قادرة على ترميم هذه الصورة وتجميلها ولو بعد حين.
فهل سيشكل طوفان الأقصى نقطة فاصلة بين مرحلة تكذب فيها إسرائيل دون تبعات، وبين مرحلة يصبح لهذا الكذب فيها عواقب – على الأقل بالنسبة لصورتها- لدى الرأي العام الدولي؟
هذا هو التحدي الذي سيواجهه مناصرو قضية الشعب الفلسطيني في السنوات المقبلة.. إنهم مطالبون بالاستمرار في نشاطهم لكشف أكاذيب إسرائيل، القديمة والجديدة، وعدم الاستسلام لفتور العزيمة مع مرور الوقت، لأن النسيان من أكبر أعداء الحقيقة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.