تمثل الثقافة تاريخًا مفرغًا من مضامينه وماهيته في عصر سيطرت عليه المادية المتوحشة على الطبع الإنساني، وصنعت منه آلة استهلاكية فاقدة لحس التضامن والترابط، وما الثقافة إلا سجل حافل بتاريخ بشري مترامي الهويات واللغات، ومتشابك الأزمنة بجغرافيتها.
ومثلما تعبّر الألسن عن حالتها وتتزين الأجساد بكسوتها، ابتكر البشر غطاء لرِؤوسهم يقيهم حر الصيف وقرّ الشتاء، فالعمامة كانت زينة العرب في حلهم وترحالهم، والقبعة على اختلافها تفاخرت بها وجوه العجم من أوروبا وبلاد ما وراء النهرين، ومن تلك الأغطية التي تبرجت بألوان زاهية، وتجاوز قطرها دائرة الرأس، قبعة "السومبريرو"، التي تعني بالإسبانية "المظلة" أو "مظلة الرأس"، وقد انتشر استخدامها في بلدان المغرب العربي وأميركا الجنوبية، إلا أنّ منشأها يحكي حنينها إلى الفردوس الضائع الذي تغنّت به أشعار المغاربة.
لم ترتبط صورة السومبريرو بتاريخ منطقة ما، بقدر ما صاغ ثقافة اقتصادية رائجة ضمن أسواق "الوعدة"، حيث يعاد الاحتفاء بالعلماء والصلحاء في مناطق عديدة في المغرب العربي
المنشأ الثقافي
وفقًا للروايات التاريخية تعود جذور السومبريرو إلى المملكة الإسبانية، حيث كان الفردوس الأندلسي يلفظ أنفاسه الأخيرة، إذ شهدت أوروبا بداية نهضوية وثقافية، ساعدت في استحداث أشكال متميزة من القبعات، وقد ساهمت عمليات الاكتشافات البحرية وطرق التجارة في انتشار قبعة السومبريو الإسبانية التقليدية التي اعتلت رأس النبلاء والتجار، وكانت الريشة والزخارف والقماش الفخم أهم سمات قبعات الطبقة الأرستقراطية.
ومثلما ارتحل غطاء السومبريرو إلى مستعمرات أميركا الجنوبية، كانت الحملة ضد دول شمال أفريقيا واحتلالها لأراضي المغرب والجزائر سنين عددًا، تشكل تزاحمًا هوياتيًا في بنية الأمة الاجتماعية، فهو حمل هوية الغازي الذي ينهب الثروة ويهدد الدين، فبالعودة إلى الوقائع التاريخية وشكل المجتمعات بين الضفتين، فإننا سنجد أنّ العمامة كانت الغالب في تغطية الرأس عند المسلمين، حتى إنّ البدو الرحّل والطوارق وغيرهم لم يستخدموا ما سمي السومبريرو، وذلك لعدم الحاجة إلى مثل تلك القبعة.
وقد تحدد شكل السومبريرو وفق الضرورة والاستخدام، وتطوره التاريخي كان ضرورة اقتصادية، إذ كان النبلاء الأوروبيون يلبسون القبعات الفخمة، في حين استبدلت صنعته من القماش بسعوف النخيل التي كانت تغزو أراضي المستعمرات الإسبانية، ما سمح باستخدامه في الأوساط الهشة والفقيرة.
لم ترتبط صورة السومبريرو بتاريخ منطقة ما، بقدر ما صاغ ثقافة اقتصادية رائجة ضمن أسواق "الوعدة"، حيث يعاد الاحتفاء بالعلماء والصلحاء في مناطق عديدة في المغرب العربي، إلى جانب موسم الحصاد المحلي وحفلات الغناء المكسيكية المعبرة عن التاريخ الاستعماري الإسباني.
بيدَ أنّ الإشكالية حول بدايات ظهور السومبريرو في المغرب العربي كانت مع موجة الغزو الإسباني وتجاذبات ثقافة الضفتين، وتأتي ضمن سردية تاريخية أقرب لما يتعارض مع طبيعة المجتمع الإسلامي وقتها، والتوجهات العقائدية في مخالفة أهل الكتاب ومقارعتهم.
ظهر غطاء السومبريرو في لوحة للفنان والمستشرق "فريدريك آرثر بريدجمان" بعنوان "مقهى في بسكرة الجزائر"، وهي عبارة عن زيت على قماش عام 1884، يظهر فيها "المظل" خلف رجل يلعب الشطرنج مع امرأة، وقد تميّز السومبريرو بألوانه العديدة واتساع قطره.
وقبله في عام 1880 قام المصور "غوستاف دي بيوكوربس" بالتقاط صورة امرأة جزائرية تلبس "الحايك"، وعلى رأسها سومبريرو صنع من سعف النخيل، في مفارقة غريبة حول وضعه فوق رأس المرأة، وهذا ترميز إلى عدم تحديد صيغة نهائية للسومبريرو كونه تقليدًا مرتبطًا بثقافة المحلي لا بتاريخ استعماري.
لعل عدم الاعتراف بقبعة السومبريرو عبر الثقافة المحلية وشعرها، وقصص خيّالتها وأساطير صلحائها، لم يكن هذا سببًا متعلقًا بكتابة تاريخية مهيمنة، بل بالانهماك بتفاصيل القبيلة وحاجاتها وملاحمها، بعيدًا عن تواريخ مغايرة لثقافة بدت تسيطر في المخيال الشعبي على الهوية التاريخية للمحلي
الثقافة عند نهاية التاريخ
في الذاكرة الشعبية الجزائرية يترجم السومبريرو إلى "المظل"، وقد انتشر في مواسم الوعدة والتويزة، والتي يتم فيها إحياء ذكرى الصلحاء والمقاومين من أمثال سيدي محمد بن عودة، والغرض من ذلك استعادة الأسطورة في رمزيتها التاريخية، لا الإنسانية المقولبة في عناوين فولكلورية ومقدسة، إلا أنّ المفارقة مع انتشار المظل في الأسواق الشعبية للوعدة هو خلو الأشعار المحلية "الشعر الملحون" من ذكره، في حين تتوالى الأبيات بتفعيلاتها في مدح القبيلة والخيمة والفارس وعود الماء والقبة، غير أنّه لم يتم تحديد المظل كطقس قبلي مرتبط بوعدة معينة لشيخ ما، وعدم الاهتمام به شعرًا وسردًا أوحى أنه خارج السياق الديني والثقافي للمحلي، ما تركه ضرورة وظيفية تطورت في حلقة الاقتصاد المتضخمة.
في المقابل، صاغ السومبريرو المكسيكي ثقافة عابرة للحدود، مفعمة بتلاقٍ حضاري وتاريخي مختلف، حيث ظهر في فيلم كرتوني لخص فكرة الخلاص الأبدي للإنسانية، فقد جسد فيلم "ماما كوكو 2017" أحد أعظم الأساطير البشرية عبر التاريخ، والمتمثلة في "الحياة البرزخية" وأهمية "استعادة التاريخ"، عبر طقوس وإحياء شعائر وتقديم قرابين، غير أنّ الفيلم بقدر ما منح المتعة والغناء والرقص المعبر عن الثقافة والهوية المكسيكية، فإنّه يكاد يكون صورة عابرة لثقافة إنسانية تحمل مآسيها وعناوين ذكرى موتاها.
فالموت في الفيلم لم يكن سوى بداية رحلة ماتعة نحو "فردوس مفقود" تأمله نفوس البشر، وتتوق نحوه بكل معاني التحلي الإنساني، وهي تجرد سجلها التاريخي وحكاياتها مع من كانوا أقرانها.
تتقارب فكرة الوعدة في المغرب العربي مع الاحتفال بيوم الموتى في المكسيك باستجابتهما للطقوس المستدعية لذكرى الأسطورة، وأهمية استعادة ثقافة "من نحن؟"، لكنهما تفترقان عند نهاية حددتها ملامح تاريخية ساهمت في تشكيل ثقافة خالصة لمنطقة معينة، إذ استطاع المكسيكيون اعتبار السومبريرو رمزًا ثقافيًا وطنيًا لأمة مهاجرة، في حين تنتهي صلاحية "المظل" مع انقضاء مواسم الوعدة وانجلاء حرارة الصيف في المغرب العربي.
وهذا الاختلاف الجذري ناجم عن "الارتباط التاريخي" الذي منحته الثقافة المكسيكية للسومبريرو، ليظل شاهدًا ومؤسسًا لهوية عابرة للحدود، بينما لم يستطع المظل أن يبرح رأس العربي إن اقتناه، لكونه ضرورة وظيفية متعلقة بمدى حاجة الفرد لها.
ولعل عدم الاعتراف بقبعة السومبريرو عبر الثقافة المحلية وشعرها، وقصص خيّالتها وأساطير صلحائها، لم يكن هذا سببًا متعلقًا بكتابة تاريخية مهيمنة، بل بالانهماك بتفاصيل القبيلة وحاجاتها وملاحمها، بعيدًا عن تواريخ مغايرة لثقافة بدت تسيطر في المخيال الشعبي على الهوية التاريخية للمحلي، وتعزز ذلك المضامين الفنية والسرديات التاريخية التي لم تتح للمظل أن يرسم توافقًا ثقافيًا في الوجدان العربي.
وأمّا عن استخداماته المتكررة اليوم، والتي باتت أقرب إلى حالة من الظواهر الحداثية في عالم تتجاذبه تداعيات العولمة والتألق المادي، فهو لا يخلو من جوانب الترف والتزين اللذين يترجمان إسقاطات الثقافة العالمية، كونها سجلًا تاريخيًا تنتهي عند حدوده.
ففي كأس العالم في روسيا وقطر، كانت قبعة السومبريرو تظهر كشعار وطني للمكسيكيين، من دون الحاجة إلى الاعتراف بتاريخها وثقافتها، بينما لم تتح المهرجانات والملتقيات في المغرب العربي من تخليص المظل من سياقه الاقتصادي، نحو تاريخ يروي حقبة استعمارية واضطهادًا عاينته كاميرا غوستاف دي بيوكوربس، وهي تتجاوزه في صورتها اللاحضارية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.