- غياب دول الجنوب وهيمنة الفلسفة الغربية
بعد مرور 76 عامًا على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، يظل التساؤل حول فاعلية هذا الإعلان مطروحًا، خاصة في ظل الحروب المتكررة التي تعصف بالشرق الأوسط.
فعند العودة إلى الجذور التاريخية لهذا الإعلان، نجد أن معظم الدول التي شاركت في صياغته هي دول غربية بالأساس مع غياب شبه تام لبقية الدول الأفريقية والآسيوية ودول الجنوب بشكل عام، التي كانت في معظمها خاضعة للاستعمار آنذاك.
هذا الواقع يجعل من القيم والمبادئ الكونية التي يحملها هذا الإعلان محل شك باعتبارها انعكاسًا للفلسفة الغربية لمفهوم حقوق الإنسان، والتي تستند إلى التطورات التاريخية والسياسية التي مر بها الغرب، كالثورة الفرنسية، الثورة الأميركية، والثورة الصناعية.
ولذلك نجد الكثير من النقاد والفقهاء بل وحتى الفلاسفة الذين يعتبرون هذا الإعلان مرآة تعكس المفاهيم والمبادئ الغربية، مع إقصاء تام للتنوع الثقافي والديني لبقية شعوب دول الجنوب.
إذ أدى هذا الغياب لجعل هذه الشعوب تنظر إلى منظومة حقوق الإنسان الدولية كأداة استعمارية إمبريالية تستخدمها الدول الغربية لتحقيق مصالحها السياسية. فتحوّل مفهوم حقوق الإنسان بذلك من كونه قيمة كونية إلى أداة سياسية تخدم مصالح القوى العظمى.
صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان متأثرة بشكل كبير بالمدرسة الليبرالية الغربية التي تعلي من الفردانية وتهمل الحقوق الجماعية والثقافية والاقتصادية، وهي ذات المدرسة التي بررت تاريخيًا سياسة الاستعمار والاستغلال التي قادتها دول أوروبا تجاه شعوب آسيا وأفريقيا
ازدواجية المعايير في تطبيق مبادئ حقوق الإنسان
- التدخلات الغربية نموذجًا
كل متتبع للخطاب السياسي والدبلوماسي الغربي، يجد أنه ثمة احتكار واضح لمفهوم حقوق الإنسان، حيث تتزعم الولايات المتحدة ودول ما يسمى "العالم الحر" هذا الخطاب، مدعية أنها الحامية لهذه القيم. إلا أن الواقع يكشف عن ازدواجية معايير صارخة في سياسات هذه الدول.
على سبيل المثال، استخدمت الولايات المتحدة حقوق الإنسان كذريعة للتدخل العسكري والسياسي في العديد من مناطق العالم، بما في ذلك أميركا اللاتينية، وآسيا، وأفريقيا. إذ بررت غزوها أفغانستان بدعوى "تحرير المرأة الأفغانية" ونشر الديمقراطية، إلا أن هذه العمليات العسكرية خلفت انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان وتسببت في خلق حرب أهلية ما زالت تمزق نسيج المجتمع الأفغاني إلى الآن.
علاوة على غزوها العراق تحت شعار "دمقرططة العراق" وإنهاء الاستبداد، لكن النتائج كانت كارثية على المدنيين والبنية التحتية، مع انتهاك صريح لمبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
أما فرنسا، فقد أفلتت من المساءلة عن الجرائم التي ارتكبتها أثناء استعمارها للجزائر، بما في ذلك التعذيب والقتل الجماعي. هذا التاريخ المليء بالتناقضات يجعل شعوب آسيا وأفريقيا تنظر إلى منظومة حقوق الإنسان الدولية بعين الشك، معتبرةً أنها لا تمثل رؤيتها لحقوق الإنسان ولا تأخذ في الحسبان خصوصياتها الثقافية والدينية، بل إنها أداة سياسية تعكس الهيمنة الامبريالية الغربية.
وفي ذات السياق نجد أن صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان متأثرة بشكل كبير بالمدرسة الليبرالية الغربية التي تعلي من الفردانية وتهمل الحقوق الجماعية والثقافية والاقتصادية، وهي ذات المدرسة التي بررت تاريخيًا سياسة الاستعمار والاستغلال التي قادتها دول أوروبا تجاه شعوب آسيا وأفريقيا، مصورة إياها باعتبارها شعوبًا متخلفة وجاهلة وبربرية، محتاجة لذلك "الرجل الأبيض" الذي سيأتي إليها بالحضارة والتمدن وينقذها من براثن الفقر والمرض والجهل والتخلف وحاميةً لمصالح طبقية برجوازية.
وفي سياقنا الراهن تأتي القضية الفلسطينية، خاصة في ظل الأحداث الأخيرة التي تمر بها المنطقة الآن، تأكيدًا على الازدواجية والانتقائية في تطبيق المعايير المتعلقة بحقوق الإنسان من قبل الدول الغربية. إذ يأتي هذا الإعلان ليثبت أن مفهوم حقوق الإنسان تمت صياغته أساسًا لهيمنة الغرب على بقية دول العالم، كأداة استعمارية وإمبريالية، وأداة لاستغلال الشعوب والتدخل السياسي في الشؤون الداخلية لهذه الدول.
شعارات حقوق الإنسان ليست سوى محاولة من الدول الغربية لتغطية تاريخها الدموي والاستعماري، الذي لا يزال يلقي بظلاله على علاقاتها مع بقية دول العالم
ففي الوقت الذي يتم فيه التركيز المكثف على انتهاكات حقوق الإنسان في مناطق مثل أوكرانيا، يتم تجاهل الجرائم المرتكبة ضد الفلسطينيين، بما في ذلك الاستيطان والإبادة الجماعية.
هذا التجاهل ليس منفصلًا عن السياق التاريخي، بل هو امتداد للنهج الاستعماري الذي استخدمته الدول الغربية لتبرير سيطرتها على شعوب آسيا وأفريقيا. فالاحتلال بارتكابه هذه الجرائم إنما يعيد استنساخ سياسات الدول الأوروبية الاستعمارية خلال القرنين الماضيين.
ولذلك فالموقف الغربي هو موقف طبيعي تمامًا ومتناسب مع سياق تاريخي استعماري. فموقفهم من المنطقة العربية هو موقف استعماري مؤسس على اعتبار هذه المنطقة منطقة نفوذ ومنطقة كانت تحت الاحتلال سابقًا.
لذا فمن غير المفاجئ أن تقوم حكومات الدول الغربية بغض الطرف على جريمة الإبادة الجماعية الدائرة في قطاع غزة منذ أكثر من سنة. ويمكن تبرير ذلك باعتبار أن المشروع الصهيوني في حد ذاته هو مشروع أوروبي غربي أساسًا، فالدول الأوروبية هي التي أسست المشروع الصهيوني في فلسطين.
وبالتالي، فشعارات حقوق الإنسان ليست سوى محاولة من الدول الغربية لتغطية تاريخها الدموي والاستعماري، الذي لا يزال يلقي بظلاله على علاقاتها مع بقية دول العالم. فإذا سقطت إسرائيل، فإن ذلك يعني سقوط الغرب بأكمله؛ لأنها تمثل الحصن الأخير للمشروع الغربي في المنطقة العربية.
في ظل الهيمنة الغربية المستمرة على السياسات الدولية، يبدو أن هذه المبادئ ليست سوى أداة تستخدمها الدول الكبرى لخدمة مصالحها السياسية والإستراتيجية
وتمتد هذه الازدواجية الانتقائية في تطبيق قواعد حقوق الإنسان إلى محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية التي يمكن القول بأنها وُجهت بشكل أساسي لمحاكمة الأفارقة والعرب، بينما لا يُحاسب الأوروبيون أو الغربيون على جرائمهم. فشعارات حقوق الإنسان وُضعت في الأساس للاستهلاك الغربي الداخلي، ولم تُصمم يومًا لتُطبق أو تُصدر إلى الشعوب المقهورة في دول العالم الثالث.
في الختام، يتضح أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، رغم كونه يروج كقيمة كونية، لا يزال محاطًا بشكوك حول مصداقيته في تطبيق مبادئه على المستوى العالمي. ففي ظل الهيمنة الغربية المستمرة على السياسات الدولية، يبدو أن هذه المبادئ ليست سوى أداة تستخدمها الدول الكبرى لخدمة مصالحها السياسية والإستراتيجية.
فتجاهل الانتهاكات المستمرة في مناطق مثل فلسطين، وتركيز الاهتمام على قضايا معينة تتناسب مع المصالح الغربية، يكشف عن ازدواجية وانتقائية في تطبيق هذا الإعلان.
هذا التفاوت في المعاملة يشير إلى أن هذه المبادئ قد صيغت بطريقة تستثني التنوع الثقافي والسياسي لشعوب الجنوب، بل وتستخدم كغطاء لتبرير السياسات الاستعمارية والإمبريالية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.