شعار قسم مدونات

دمشق مدينتي!

Statue of Saladin, or Salahdin, outside the old city in Damascus, Syria
تمثال صلاح الدين الأيوبي خارج المدينة القديمة في دمشق (غيتي)

لكل إنسان مدينته المدللة، سواء التفت لذلك وتنبه له أم لم يلتفت، ربما هي مدينته التي ولد فيها، وربما هي أخرى ترعرع وكبر فيها، أو لعلها مدينة غيرت كيانه وقلبت أحواله.

لا أظنها قناعتي فقط، فكثيرون هم الخبراء الذين يقرون الارتباط النفسي المكاني للإنسان، فيُجمعون على أثر الفراغ والعمران والبيئات في تشكيل الإنسان، وما المدن إلا كتلة من هذه الثلاث وهي الكبرى والأعمق.

أما مدينتي فهي دمشق.. في كل مرة أراني أقارب وأباعد أي مدينة أزورها أو أطالع صورها بمدينتي هذه؛ فتعالوا أحدثكم عن دمشق، مدينتي التي تمزج آثار الماضي الشامخ بجمال الطبيعة الربانية الخلاب!. هي كذلك في ذاكرتي المغتربة على الأقل، فهلموا أحدثكم.

لن أصفها بإحدى أقدم مدن التاريخ، كما يعرف ذلك الجميع ويكررون، ولكن أريد أن أريكم إياها في ذاكرتي وعيني.

مدينة دمشق القديمة تمامًا كالقدس وحلب والقاهرة، وغيرها من المدن القديمة، ذات مساحة صغيرة محاطة بأسوار منيعة وأبواب تحدد حركة الدخول إلى المدينة، تهالكت أكثر أسوارها، وصمدت بواباتها السبعة وقلعتها الحصينة

هل سمعتم بغوطة دمشق سابقًا؟ لقد اعتدنا أن نصوغ غوطتها الدمشقية في مواضيع التعبير المدرسية بالسوار المحيط بمعصم اليد.. وبردى يرويها ويغذيها، ويكسبها الحلة الخضراء.. ولكن، بالطبع يا سادة فالحياة المدنية تتنامى وتأكل الكثير من جمال الطبيعة الخلاب، ومع بعض الهندسيات الجائرة للمدن تتراجع الأنهار والأشجار.

إعلان

رغم ذلك، فإن لنزهة عائلية يوم الجمعة إلى أحد بساتين الغوطة في الأيام الربيعية طعمًا آخر، كانت هذه النزهة حلمًا يُنتظر من عام إلى عام.. لا تحتاج لأكثر من "مَدَّة أرضية" (سجادة بسيطة يعني)، تمدها بين أشجار المشمش والكرز والدراق محاطًا بزهر الربيع الأبيض الغض، لتجلس وتستمتع بآيات الجمال الربانية، مع نسمات عليلة باردة نقية، نفتقر إليها داخل المدينة.

دمشق إحدى أكثر المدن التي زرتها اعتدالًا مناخيًا.. كانت تعيش تنوع الفصول الأربعة بأريحية مطلقة، قبل أن تصيبها بعض التغيرات المناخية في السنوات الأخيرة، بل لعل هذا التغير ما هو إلا صورة من صور ضيق الحياة فيها اليوم أيضًا.

مدينة دمشق القديمة تمامًا كالقدس وحلب والقاهرة، وغيرها من المدن القديمة، ذات مساحة صغيرة محاطة بأسوار منيعة وأبواب تحدد حركة الدخول إلى المدينة، تهالكت أكثر أسوارها، وصمدت بواباتها السبعة وقلعتها الحصينة التي استخدمت عبر الزمان لأغراض مختلفة.

أما عن جمال المدينة القديمة، وروح المدينة القديمة، ألفة أزقتها، دفئها، ودها، احتضانها لمن يمشي فيها.. نكهة ونَفَس آخر!. أكتب لكم وأنا أتذكر حلقات البحث وجلسات الرسم أيام دراستي الجامعية في كلية الهندسة المعمارية فيها، جوامعها ومدارسها الأثرية، بيمارستانها، مكتبتها، تكاياها وخاناتها.. مزدانة بروعة التفاصيل ودقة المعمار وأصالته، وتحدثكم عن أحقاب من الزمن.. آهِ لروعتها وشموخها، لعزتها وقوتها.. وآه لحكايات ألفة ومحبة تحكيها هاتيك الأزقة المتشابكة المتقاربة.

هل جربت يومًا المشي عصرًا في مدينة ما، قبيل غروب الشمس بوقت وجيز؟ للسير عصرًا في شوارع دمشق نغم مختلف.. مهما ارتفعت درجات الحرارة هناك، فحالما تميل شمس العصر وتقترب من الغروب، تعيش مناخًا مختلفًا تمامًا

دمشق.. حالة روحانية فريدة لن تعيشها في مدينة أخرى غالبًا!. لعل لمدينة إسطنبول شيئًا من تلك الروحانية، فأراها تأخذني بنسمة رقيقة آسرة إليها، فتجعلني أحبها لحب دمشق.

بيوت دمشقية مميزة بباحاتها وبحراتها وأشجار النارنج والليمون، خانات وأسواق عثمانية ومملوكية وزنكية وأموية، عربية وأعجمية، لكنها إسلامية محاطة بسور روماني عتيق وأبواب منيعة.. تتدفق في ذاكرتي الآن صور وفيديوهات. ولكن المدن تتسع وتكبر باستمرار، خاصة مع تزايد التوجه نحو الحياة المدنية، فلهذه الحياة الحداثية رغم إرهاقها بريق ما يجذب الناس ويحاكي رغباتهم.

إعلان

خارج تلك الأسوار قصص وحكايا وأحياء منوعة حد العجب.. ورغم كل ازدحامها ومعالم التعب في جدرانها، ووجوه سكانها فإن أشجارها مختلفة.. خضرتها وشموخها، توزعها وانتشارها، تقاربها أحيانًا وتباعدها أخرى.. نهر بردى يتخلل بعض شوارع تلك المدينة العتيقة ويقسمها.

هل جربت يومًا المشي عصرًا في مدينة ما، قبيل غروب الشمس بوقت وجيز؟ للسير عصرًا في شوارع دمشق نغم مختلف.. مهما ارتفعت درجات الحرارة هناك، فحالما تميل شمس العصر وتقترب من الغروب، تعيش مناخًا مختلفًا تمامًا، حالة ساحرة من التمازج بين ألوان المدينة ساعتها وبين النسمات الناعمة.. نعم، هناك نسمات معينة في إسطنبول تنعشني وتأخذني لنسمات صبح وعصر دمشق المختلفة، إلا أن دمشقَ دمشقُ.. هل وصلكم بياني؟!

يتنوع طابع المباني في دمشق (طبعًا عن خارج السور أتكلم الآن)، ففيها العديد مما يأخذ الطابع الفرنسي، وفيها التائه في الطابع، فلا تعرف له رسم زمن رغم أنه ينتمي إلى زمن حديث نوعًا ما، إلا أنه زمن صعب مر.

نبع عين الفيجة وعين الخضراء.. عيون مياه عذبه تغذي المدينة بأكملها، وتحتضن غابات غناء جميلة جميلة، جميلة إلى حد الذوبان.. في الحقيقة، لا أدري من يكتب هنا، ذاكرتي أم عواطفي، أم هي نزهات الطفولة تطرق ذاكرتي النائمة؟

سأعود الآن لآخذكم إلى رئة دمشق الثانية، فقد حدثتكم بداية عما يحيطها من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي.. فأما قبالته فجبل قاسيون، يحار المرء في وصفه حقيقة!. وشخصيًا، أتحيّر كثيرًا في أيهما أجمل.. إطلالة على دمشق كالصفحة من أعالي قاسيون، أم نظرة من ساحة الأمويين؟ فقط قف وسط الساحة، وانظر منها إلى قاسيون يقف كالدرع الحنون محيطًا بها.. تبارك الخالق المبدع!

المهم أن على سفوح قاسيون حيًّا من بدع الجمال.. ولعل أصدق من يحدثكم عنه كتاب دمشق للدكتور محمد علي الطنطاوي (رحمه الله).. إنه حي المهاجرين.. شخصيًا، أعتبر سكانه من المحظوظين، رغم وعورة الحي في الكثير من أجزائه فإنه ذو إطلالة خلابة وهواء عليل، وينتهي الحي بمنطقة الربوة، متغنى المتغنين ومستراح المتعبين.

ترى بردى فيه خداقًا.. هواء نظيف.. حافات جبال منتصبة.. ينتهي الطريق ليأخذك إما إلى مدينة حي دمر المحدث ذي الطابع الراقي، المختلف بطابعه عمومًا عن قلب المدينة القديم المزدحم، أو إلى أجمل ما يمكن لعين أن تراه.. نبع عين الفيجة وعين الخضراء.. عيون مياه عذبه تغذي المدينة بأكملها، وتحتضن غابات غناء جميلة جميلة، جميلة إلى حد الذوبان.

إعلان

في الحقيقة، لا أدري من يكتب هنا، ذاكرتي أم عواطفي، أم هي نزهات الطفولة تطرق ذاكرتي النائمة؟ هناك حيث ألذ وأكرم مطاعم يمكن أن تأكل فيها.. تأكل اللحوم المسجاة بأشكال مختلفة، ثم تتناول الفاكهة طازجة باردة من قطاف هذه الأرض!. بردى هناك غداق غداق حد الإفراط.. حتى إنه يغمر تلك المقاهي والمطاعم المتناثرة على حافتيه شتاء في تلك البقاع.

مازلنا في المنطقة الغربية لدمشق، واقتربنا لنصل إلى حدود مقيتة تفصلها عن أرض لبنان.. قبل هذه الحدود مباشرة هناك مكان لم أعد أجد كلمات أصفه بها؛ فقد استنفدت مخزوني اللغوي، ولكنه ببساطة مزيج السهل والجبل.. ينابيع عذبة.. ظلال وارفة.. هواء بارد صيفًا شتاء!. إليها نسعى شتاء لنستمتع بثلوج لا يشهد كثافتها قلب المدينة، ونلجأ إليها صيفًا لنتنعم بالهواء البارد حتى في حر الظهيرة، وكأن الله أهدى هذه المدينة وأغدق عليها بتنوع العطايا.. إنها سهول الزبداني وجبال بلودان.

فتحها الراشدون، ودللها الأمويون، ولم يقلل من شأنها العباسيون.. أحبها المماليك والأيوبيون، وأعظم شأنها العثمانيون، وميزوها بتذكارات أظن أننا لا نجد مثيلًا لها إلا في محط أنظار وأهداف المتصيدين، القسطنطينية.. إسطنبول

بالطبع، لم يعد يسكن دمشق أهلها فقط، ولكنها أصبحت مزيجًا منوعًا من كل أنحاء البلاد، لتشكل طابعًا يختصر بلدًا بأكمله.

دمشق اليوم مرهقة، مرهقة حد التهالك، تترقب الغد متأهبة متحفزة، يتوجه إليها العالم حابسًا أنفاسه متتبعًا أخبارها.. فهل تطلع شمسها عما قريب؟

يظن البعض أنها أحلك أيام تمر بهذه المدينة.. ولكن التاريخ يروي غير هذا، فقد تنوع الظلم والاستبداد والقتل والخراب والجوع والعطش على صفحات تاريخها.. ولكنها كانت تعود لتنهض وتجدد ازدهارها وتكمل مسيرة دلالها في قلوب من يسكنها ومن يحكمها بنور الله..

فتحها الراشدون، ودللها الأمويون، ولم يقلل من شأنها العباسيون.. أحبها المماليك والأيوبيون، وأعظم شأنها العثمانيون، وميزوها بتذكارات أظن أننا لا نجد مثيلًا لها إلا في محط أنظار وأهداف المتصيدين، القسطنطينية.. إسطنبول.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان