شعار قسم مدونات

معضلة التأثير في زمن الرّقميات

"الفاشينيستات" بمواقع التواصل الكويتية.. رفض وقبول
كم من عقول غُسلت بشخصيات ذائعة الصيت في وسائل التواصل الاجتماعي؟ (الجزيرة)

لقد زال العناء وخضنا في غمار الرقميات، وها هو ذا عصر التقدم التكنولوجي الذي قاد البشرية نحو الرقي المادي؛ فتطورت الخدمات، وانكمشت الرقعة الجغرافية، فأصبحت المعلومات والأفكار والأيديولوجيات تنتقل بين الأمم والشعوب بكبسة زر واحدة، وهذا ما جعلنا أمام وابل من المعلومات مختلفة المصدر، والتي بدورها دعت الجماهير لتندفع فتستهلك منها الأخضر واليابس!. فكيف ضاعت الهوية الأصلية وسط العالم الافتراضي؟ وكيف انتشرت الأفكار التي غيّرت -وبشكل جذري- نمط تفكير الأفراد؟

الهوية الأصلية للإنسان تتلخص في الشغف والاهتمامات والميولات، التي تميز كل شخص عن الآخر.. لكن أن نتجرد من هذه الهوية، ونحاول أن نصبح نسخة طبق الأصل من نموذج افتراضي بعيد عن الواقع والحقيقة، فهذه قمة السذاجة!

إن ما نشاهده الآن من خليط الأفكار المنتشرة، التي غزت عقول الأفراد -ومنهم الشباب- ما هو إلا انعكاس لعوامل عدّة، من بينها الهوس بالنموذج الافتراضي المثالي المقترن بالنجاح، والذي يتجلى لنا عبر شاشات الهواتف.

وهذا النموذج قد خلق حاجزًا يمنع الهوية الأصلية للشخص أن تتجلى وتظهر لتميِّزه عن الآخرين، وبذلك ستنعدم ميزة من ميزات البشر، ألا وهي الاختلاف. ولهذا، وجب القول إن الاندماج والذوبان مع أصحاب الدَّرب الواحد سيؤديان بنا إلى التجرد من هويتنا الأصلية، وتناسي هدفنا الأسمى، فنصاب بحالة من السُّكْر واللاوعي تجاه مهمتنا الأصلية والجوهرية وهدفنا الأسمى.

إعلان

وبخصوص الهدف الأسمى، فقد فصلت فيه في كتابي "في رحاب الاستنارة"، وقد وصلنا إلى فكرة مفادها أن الهدف الأسمى ينقسم لشطرين؛ هدف أسمى عام، وهدف أسمى خاص. يتجلى الأول في طاعة الله، والخضوع لأمره، وهذا الجانب له علاقة بالشَّق الروحي للفرد.. وأما الثاني، فهو التفاني في إنجاز مهمتنا الدنيوية التي أوكلت إلينا، وهذه المهمة وجب على كل واحد منا اكتشافها وممارستها والتفاني في إنجازها، لكن الذي يعيق اكتشاف هذه المهمة هو التأثر المفرط بالرقميات، الذي يودي بهويتنا الأصلية إلى الهلاك، عن طريق استيراد العقليات التي ربما تنطبق على جزء يسير فقط من الأفراد.

التجرد من الهوية الأصلية يمكن أن يتجسد في صيغ عديدة، فما نشاهده الآن من مؤثرين ومؤثرات، وجمهورهم الذي فاق الملايين من المتفرجين والمتفرجات، قد ساهم في تشكيل عدد لا يحصى من البيادق، الذين لهم ميزة يتقنونها، ألا وهي ميزة "العطاء الفارغ"

الهوية الأصلية

إن الهوية الأصلية للإنسان تتلخص في الشغف والاهتمامات والميولات، التي تميز كل شخص عن الآخر.. لكن أن نتجرد من هذه الهوية، ونحاول أن نصبح نسخة طبق الأصل من نموذج افتراضي بعيد عن الواقع والحقيقة، فهذه قمة السذاجة!. وهنا، أين يكمن الدليل القاطع على غسل العقول؟

كم من عقول غُسلت بشخصيات ذائعة الصيت في وسائل التواصل الاجتماعي، من الذين يقومون بخداع العامة، كالذين يقومون ببيع دورات كسب التداول والاستثمار، ودورات كسب الأموال التي لا تسمن ولا تغني من جوع!. إنهم لا يختلفون عن أولئك الذين يبيعون دورات الطاقة واكتساب الشخصية الخارقة، وما شابه ذلك.

فهؤلاء أيضًا كانوا في السابق من بين المتفرجين على ما يسمى الآن بالمؤثرين، فتأثروا وصاروا على هذا المنوال.. أصبحوا يتقنون فن "العطاء الفارغ" الذي لا يولّد إلا فراغًا، هُم واهمون إلى حد كبير.

إن التجرد من الهوية الأصلية يمكن أن يتجسد في صيغ عديدة، فما نشاهده الآن من مؤثرين ومؤثرات، وجمهورهم الذي فاق الملايين من المتفرجين والمتفرجات، قد ساهم في تشكيل عدد لا يحصى من البيادق، الذين لهم ميزة يتقنونها، ألا وهي ميزة "العطاء الفارغ".

إعلان

فبعد أن غُيّب السبيل نحو الحياة العادية للبشر، أصبحت الجموع تتخبط من أهوال الرقميات التي يتعرضون لها، فيقومون بعملية إسقاط حرفي على أشخاص يعيشون حياة شبه مثالية، ويصورونها للعامة ويحثون عليها، ويُظهرونها على أنها الحياة التي يجب أن تعاش، وكأنهم يقولون لنا "حياتكم العادية جحيم، وحياتنا هي الجنة"!. ولكن الحقيقة تقول عكس ذلك، فجلُّهم يعيشون في أزمات نفسية حادة، وعاهات فكرية مريضة، وتزييف للمشاعر!

ميزة العطاء الفارغ

إن العطاء الفارغ هو ذلك العطاء الذي لا يُحدث أثرًا فعليًا في الميدان من الناحية العملية، فهو عطاء يُظهر في سطحه التغيير، أمّا باطنه فخواء وفراغ، ولا يساهم أبدًا في التغيير، بل إنه يساهم في توسيع بؤرة التيه، عن طريق تزييف المعاني الحقيقية للسعادة والنجاح والرضا عن الذات..

فكما نعلم جميعًا، هذه المفاهيم تختلف في المعنى بين شخص وآخر، لكن المتأثرين بالعالم الافتراضي قد طُبعت في أذهانهم تلك الصورة الخيالية للنجاح، فأصبحوا مسوخًا متشابهة، اغتيل في نفوسها الإبداع، فصار همها الوحيد حبّ الظهور، وتصوير مقتطفات من حياتهم؛ فعاشوا سعادة مزيفة ليوهموا المتفرجين.

صُوِّر الرجل على أنه المغتصب والمعتدي، والعدو الأول للمرأة، في حين صُوِّرت المرأة على أنها الطفيلية الخبيثة، والخائنة المختفية، والسرطان الذي يهدد هيبة الرجل وشموخه

تشويه العلاقات

في الجانب الآخر أصبحت العلاقات البشرية عمومًا، والعاطفية خصوصًا، تخضع لمعايير مفتقرة لأساس واقعي، وخالية من الجودة التي تجعلها متينة لضمان استمرارها؛ فجلُّ العلاقات أصبحت ذات أساس مادي بحت، وطرق التفكير المنتشرة في عقول شباب هذا الجيل تابعة لمنطق غربي، ولتيارات غريبة عن هويتنا وثقافتنا!.

فصُوِّر الرجل على أنه المغتصب والمعتدي، والعدو الأول للمرأة، في حين صُوِّرت المرأة على أنها الطفيلية الخبيثة، والخائنة المختفية، والسرطان الذي يهدد هيبة الرجل وشموخه.

والأسوأ من هذا كله أن جُلَّ هذه التصورات تتعاطاها العقول الغافلة المُستعبدة، فيدّعي أصحابها أنها الحقيقة، لنصبح بعد هذا في صراع أبدي بين جنسين، بدلًا من أن نكون في علاقة مبدؤها الاحترام، وأساسها التعاون والمودة.

إعلان

وهنا سأختم بمقولة جميلة قالها مغنٍّ شهير يدعى برنس (Prince)، إذ قال بالإنجليزية: "don’t be fooled by the internet.. control the computer, don’t let the computer control you ".. وقد كان هذا في أواخر التسعينيات، حين كان العالم متأهبًا للدخول في موكب التكنولوجيا ومواكبة التغيير على كافة الأصعدة التي نشهدها الآن، فقد لخصت هذه المقولة كل ما نحن بصدد كتابته حول المخاطر التي تحيط بنا في هذا العالم الافتراضي، وقد أصبح كثير منا فريسة يسهل صيدها.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان